رسائل ثلاث - قصة قصيرة لـ نيلز شيفانو ، ترجمة : مي المدلل

تقليص
X
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • مي المدلل
    عضو منتسب
    • Mar 2010
    • 2

    رسائل ثلاث - قصة قصيرة لـ نيلز شيفانو ، ترجمة : مي المدلل

    رسائل ثلاث
    نيلز شيفانو
    ترجمة \\ مي المدلل


    انه الخريف، الوقت لم يزل ظهراً والرحلة استغرقت وقتاً طويلاً لبطئ حركة السيارة بسبب ضعف الرؤية وسحب الغاز الكثيفة المنبعثة من عادم السيارة وحركة ماسح الزجاج المتقطعة. اطفأت المحرك وامتلأ المكان بهدوء وظلام ساكن، تمشي مطوطأة رأسها معتمرة قلنسوة المعطف، تشعر بالتفاف مقابض كيس الحاجيات البلاستيكي حول اصابعها، الكيس يتأرجح يميناً وشمالاً صافعاً ساقها بتكرار ممل.
    الرصيف واسع ومغطى بفراش بني من اوراق الشجر المتساقطة، رائحة النيران المشتعلة تنبعث من الاراضي المجاورة، غبار ضعيف التصق بأعمدة الانارة في الشارع منتجاً ما يشبه الغاز الاصفر.
    الاصوات مكتومة والحركات خاملة، السيارات تنزلق ببطئ فوق مياه الشارع الآسنة، عند بوابة البيت اخّرت نفسها، لم يحن وقت الشاي بعد لكن المدينة شبه نائمة. صف المنازل المقابل لها عانق انعطاف الشارع المتهاوي غيرالمنتظم نزولاً الى الهضبة الكئيبة. الوجوه الصخرية مغمورة باللون الرمادي، قرميد السقف المتكسر، جهاز الستلايت، النوافذ البارزة وكل الاشياء المبعثرة، لوهلة من الزمن اصبح بيتها غريباً عليها، مجرد مقصورة بسيطة في خضم ذلك الهيكل الضخم المترابط.
    طقطقت بالمفتاح وهي تضعه فتحة الباب، تميله الى الزاوية المناسبة التي تجعله يفتح. دخلت البيت، يداها تتحسسان نقطة الاضاءة بينما تغلق الباب.
    الدفء الخفيف لحيطان البيت شكّل تبايناً مرحباً به مع برودة السطح الخارجي الداكن حيث عمل احد جيرانها القدماء على تدفئة البيت من جوانبه وسرعان ما كانت تسمع الضجة المريحة المنبعثة من المرجل القادم الى الحياة من جديد.
    ابقت نفسها حبيسة تلك التفاصيل السعيدة عن رجوعها الى البيت بينما كانت تمشي في الرواق المؤدي الى المطبخ، حملت كيس حاجياتها ووضعته فوق المنضدة واخذت ابريق الشاي.
    تقف وسط الغرفة ما تزال تلبس قلنسوتها مستمعة لصوت غليان الماء، شعرت ان البيت يؤقلم نفسه تبعاً لوجودها. لقد عادت الان لتقضي كل الاوقات التي احست انها قضتها غير واعية. الاشباح التي كانت تتجول في الغرف تنسل الان بتردد لتدخل الجدران، حتى عندما غيرت الاشباح مكانها ظل البيت على حاله حافظاً لكل عيوب الزمن في الزوايا المغبرة.
    دموع الكآبة فوق جدران غرفة النوم، شمس باهتة اللون، صورة رجل ملصقة خلف خزانة مرتبة، طعجة في الطاولة، كسر في المرآة، كل هذه الاشياء كانت تمر عليها اللحظات وهي محفورة على جسد الدهر.
    -2-
    البخار بدأ يتصاعد ليصل الى السقف حيث يحول اتجاهه مدركاً وجود بعض العيوب فيه. عبر النافذة كانت تستطيع رؤية الخط المحيط بالحديقة الصغيرة، الاشكال الرمادية غير الواضحة لاكوام السماد المنتشرة والمحاذية للسياج المتأرجح كسكران، بينما يحد الارض من الجانب الاخر سور مستقيم بارتفاع ستة اقدام.
    ما هي الاجراءات التي تمنع القطط المضطجعة خلف ذلك السور من الدخول (حقول الغام ام اسلاك شائكة، ربما؟)
    كما لو انها تستجمع افكارها، رايتشل، عيون خضراء وذيل متحرك، ظهرت تحت حافة النافذة بمواءها الهادئ، بابتسامة فتحت الباب لتدخل الهرة بخفة وباقدام مليئة بالطين طبعت اثارها على ارض المطبخ.
    صوت غليان الابريق يزداد، قطرات الماء ظهرت على جوانبه تهتز بعنف لانها لم تعد قادرة على مواصلة الغليان داخله، فجأة توقف عن العمل واطفأ نفسه.
    مدت يدها الى الرف لتأخذ مرطبان القهوة ثم انحنت الى رف الاكواب، هنا توقفت لبرهة، احتارت بالتنوع الكبير لاكواب الشاي والقهوة والكؤوس الكبيرة المصفوفة محدقة اليها بنظرات جوفاء. لماذا احتفظت بكل هذا العدد؟ من اين جاؤوا؟ تنهدت وهي تسحب كوباً من الحجم العادي ذو مسكة زرقاء فاتحة مزخرف بحروف ثلاثة ذهبية sue.
    خلعت معطفها ووضعته على ظهر الكرسي المصنوع من خشب السنديان ثم جلست، خلعت حذاءها ومدت رجليها الى المقعد الطويل خلف طاولة المطبخ من الجانب الاخر. من فوق المقعد رفوف مزينة مصفوف عليها صحون بدعامات حديدية، كوب ملصق عليه صورة الامير تشارلس والليدي ديانا (اوه، المزيد من الاكواب) ومجموعة من الصور الفوتوغرافية تعرض اما ابتسامات مجنونة او وجوهاً متجهمة لعدد من الاطفال، بينما هي تنظر الى صورة العائلة الكبيرة تراءى لها وكأنها تنظر الى خيال امرأة ضعيفة متضاءلة.
    فجأة يأتي صوت الماء وهو يسيل ليصل الى فتحة البالوعة المفتوحة، الحمام كان يشطف او ربما ماكينة غسيل كانت تفرغ نفسها، ادركت حينها ان كوب قهوتها قد برد، قامت الى مغسلة المطبخ وفتحت الماء الساخن.
    تحدق بالعتمة خارج البيت، تنصت لسلسلة من اصوات الضربات البعيدة الصادرة من شبكة الانابيب، لمحت خيال امرأة تغسل كوب شاي، من هي؟ ولماذا هي تعيسة الى هذا الحد؟.

    -3-
    هزت رأسها وسحبت سدادة الحوض، انسلت مرة اخرى الى اللاوقت، هل من الممكن للدقيقة الضائعة ان تصبح ساعة ضائعة، والساعات الضائعة ان تصبح اياماً ضائعة؟ اين يمكن ان تكون الان لو انها لم تقدم على ..... ماذا؟ تعد الشاي، محجوزة في زحمة الطريق، تقرأ الجريدة المحلية ام واقفة في طابور السوبر ماركت؟ الافضل ان تتجنب فكرة جفاف حياتها في هذه اللحظات.
    تحاول ادخال الحاجيات، اخذت الحليب، البرتقال، علبة البسكويت وطعام القطة ثم حاولت جاهدة ان تدخل قطعتي البيتزا في الفريزر ناثرة قطعاً صغيرة من الثلج على الارض. مجموعة واسعة من اكياس النايلون محشورة داخل اكياس نايلون اخرى تضعها في احد الادراج لتستعملها مرة ثانية، عندما فتحت الدرج حدث انهيار بلاستيكي امامها، رمت آخر مجموعة من الاكياس داخل الدرج ثم اغلقت الباب.
    عيناها تبعت رف البهارات ولوح تقطيع الخبز حتى وصلت لقنينة زيت الزيتون. مقعد خشب السنديان لم يكن مجرد محطة لاستراحة القدمين، اكتشفت ذلك خلال حملة تنظيف عارمة قامت بها بمناسبة رأس السنة، تحت وسادة المقعد المتحركة وجدت نتوءً صدئً كسر لها اظفرين من اظافرها، حركته واذا به يكشف عن صندوق، رغم مرور لحظات بدت وكأن صدى دقات قلبها قد ملأ البيت كله، الا انها تذكرت ان لا شيء اكثر اثارة بالنسبة لها من كومة جرائد قديمة (قذارة اكثر لتنظيفها) وقد كان الصندوق قذراً بالفعل، كانت قد قررت انه المكان المثالي لتخزين شراشف المنضدة وادوات التنظيف لكنه بدأ يبتلع حتى اغطية السرير، اغطية المخدات والشراشف على مختلف انواعها. حقاً كان عدم التفكير بوجوده او نسيانه امراً يدعو للسخرية (هل كانت هي الشخص الوحيد الذي يغير شراشف السرير وافرشة الطاولة؟).
    كانت وما تزال تظن ان لا احد يشاركها سر هذا الصندوق وانه كان ملكاً لها فقط، فتحته واذا بها تحس بسيل فرحة عارم كفرحة الاطفال، شعرت به يعود الى الحياة من جديد بينما كانت اصابعها تتلمس الطبقات القطنية الرقيقة باحثة عن علبة التوفي الحديدية الباردة اللامعة.
    -4-
    وضعت العلبة على الطاولة، داخلها تضطجع ميدالية من القوة الجوية البولندية، قطعة نقدية معدنية للذكرى، حصاة مأخوذة من شاطئ الـ(ليفرا) عام 1978 (هل تستطيع تذكر حرارة ذلك اليوم الشديدة ام انها تحتاج الى تلك الحصاة لتثبت فعلاً انها كانت هناك؟)، هدية اشترتها ولكنها لم تقدمها وثلاثة اظرف مطوية بعناية داخل حقيبة صغيرة. نظرت الى ما حولها في الغرفة، من مكان ما داخل الجدران سمعت احد الانابيب يصلصل، البيت ينفض ما في حلقه، اخذت الظرف الاول.
    ظبي قافز في طابع ملون، بدا الظبي وكأنه فزع خوفاً من ان يصطاده صياد ما من خلف الختم البريدي الاسود. الورقة داخل الظرف كانت سميكة ملونة بالوان خفيفة، رأس الورقة ازرق والتاريخ المكتوب اعلى زاوية اليمين كان تموز 2000. بينما عيناها تتجول فوق الورقة لاحظت انها على وشك ان تتفتت في جهات معنية وانها يابسة في اماكن اخرى كما لو انها قد تبللت ثم جففت.
    لا بد ان تكون هذه مفاجأة، اذا كانت كذلك فان الرسالة ستصل اليك، تذكرت عنوانك بالطبع، لكن بعدها فجأة خطر ببالي انه يمكن ان تكون قد غيرت سكنك دون ان اعرف وخدمة البريد هنا على اية حال لا يمكن الوثوق بها، لهذا ربما اكون اكتب الرسائل لنفسي. رغم انني قد بدأت الان لا استطيع التفكير بما كنت اريد قوله، اعتقد انني فقط كنت اريد الكتابة وهذا شيء مهم لانني احسست بالتواصل مع الاشياء رغم كون وجود ورقة بيضاء فارغة داخل ظرف سيبدو غريباً.
    لا احتاج السؤال عن احوالك لان كل شيء يبدو انه يسير وفق ما خططت اليه واكثر لكني ما زلت اتمنى ان تكون بخير وسعادة. اخشى انه ليس لدي شيء ممتع اقوله لك عني، مجرد سلسلة لا تنتهي من الاشياء المملة، لا شيء غير الحرارة المرتفعة وسحب البعوض المنتشرة فوق النهر والتي تجعل كل شئ يبدو اصعب مما هو عليه لكن هذا المساء عندما غسلت وجففت ثيابي فجأة شعرت بالرضا، غريب... خمسة اشهر من الكد والقلق ثم هدوء منحدر كأنه شاحنة آيس كريم تجوب الصحراء.
    -5-
    من المحتمل ان يكون هذا هو سبب كتابتي لهذه الرسالة، يمكن ان يكون تفكيري بانكلترا وقت الصيف، يمكن ان يكون صوت النهر عند المساء لكن عقلي يرجع بتفكيره الى مكان تلك الامسيات الطويلة، الاستماع الى الاغاني الجميلة، هل تستطيع تذكر طعم الشراب الرخيص الذي تناولناه؟ الاحساس بالعشب الاخضر بين اصابعك والعالم كأنه اشعاع لؤلؤي؟
    كل الناس اختفوا، كيف لنا ان نميزهم الان، من الممكن عن طريق ضحكاتهم؟ اخشى انني في احدى المرات عبثت بالطبيعة باسمك، اخذت سكين الجيب التي تحملها ورحت اخدش الصفصافة التي كنا نجلس عندها. اتذكر سؤالي ما اذا كان لحاؤها سينمو من جديد، اذا وجدت نفسك يوماً تقود السيارة متجهاً لنفس المكان لقضاء عطلة نهاية الاسبوع، ربما لن تفعل، فعلى الارجح انها ستكون ذكرى حزينة، لكني اعلم ان اسمك سيظل محفوراً هناك، على ذاكرة شجرة.
    طوت الرسالة ونقرت بها عدة نقرات على شفتها العليا. انقضت ربع ساعة ولحظة... من السكون، الزمن توقف قبل ان ترد الساعة بوهن في غرفة المكتب. اخرجت الظرف الثاني، بينما تبحث اصابعها عن طيته نظرت الى ظل الملكة الفضي، الرسالة كانت مكتوبة على ورقة بيضاء ورقيقة لدرجة انها عندما نظرت اليها خيّل لها انها رأت ظلاً ازرقاً، التاريخ كان نيسان 1976.
    هل اتذكر ذلك المساء الايلولي عندما التقيتك اول مرة؟ هل من الممكن تذكر اصابع المنوم المغناطيسي وهي تمر على جفنك؟ انا اعلم ان ذلك الشيء قد حصل فعلاً لانني في مرحلة ما كنت قد استيقظت.
    بعض الاشياء واضحة، بقايا حلم متكسر، مكالمة تليفونية في عيد الفصح، كلانا شعر بالكآبة من وضعه لانني كنت اعمل في محل من الطراز القديم وانت في مكتب حديث ومرتب. كرهت هذا الامر وسألتك هل ان الاشياء تمر ببطئ معك، اجبتني ان الامور على مايرام وانه غير مهم لان كل شيء سينتهي وان الوقت يمضي رغم كل شيء. اخبرتني ان اذهب وابحث عن السعادة واجلب لك معي بعضاً منها عندما اجدها لكن لا يمكن ايداع السعادة في مصرف، لا يمكنك الاحتفاظ بها لحين الحاجة اليها ولا يمكن اعطاؤها لشخص اخر وببساطة عندما تمتلكها.
    -6-
    اعتقدت انني سأشعر بالرضا عند مشاهدة تدفق النهر وهو يتبع عبق رائحة الزنبق، شاهدت نهارات تتحول الى ليالي وليال تفسح المجال بلطف للنهارات معتقدة انني كنت اتخلص من قلقي وهمي بينما الحقيقة انني كنت اخزن ندمي. الان اعلم ان القراءة هي الحلم والحلم هو تراخ وكسل، عندما استيقظت وجدت ان كل ما تيقى لي هو خيالك.
    الضجة التي تحدثها القطة عندما تقفز بشكل اخرق، الاحساس بها وهي تتحرك بتعاقب، مخالبها المتعلقة بشرائط القطن. هذه المرة الظل ليس ظل ملكة ولكن ظل (نهرو)، رأس ابيض على خلفية برتقالية، الطابع ملصق بالزاوية بشكل غريب (لكنه لم يزل ملتصقاً رغم مرور الوقت). الرسالة مكتوبة على ورقة دفتر مدرسي مخططة، التاريخ المكتوب بطريقة ممدودة هو تشرين الثاني 1968، بقع صفراء، ما هي؟ هل كانت هنا طول الوقت؟
    لا استطيع ولحد الان تصديق انك قررت الرحيل، لماذا الرجوع الى الكآبة، القذارة، الضجة والاستعجال؟ هناك متسع من الوقت لاختبار تلك الاشياء. اعلم انك تطارد حلمك لكن الحلم مؤجل هنا، هنا احس وكأنني ابتلع اشعة الشمس والوقار. منذ ان رحلت ونحن انتقلنا غرباً حيث الارض والطعام يشوبهما لمسة من الاحمرار. اليوم التقينا بمجموعة من الاميركان قمنا بجولة معهم على سطح عربتهم المغلقة وساعدناهم في جمع الحطب، يقولون ان هناك رجلاً عجوزاً يبيع الخرز التي كنت تريدها امام كوخه الذي يقع على ارض مساحتها ثمانية اميال من الرمل الابيض.
    اكتب لك هذه الرسالة وقت الغروب، اعتقد انه الوقت الامثل للتحدث والقراءة، العالم كله يذوب في الكلمات، احياناً يكون لدي عبارات كثيرة جميلة اود قولها لك لكني اعاني الكثير لاجعلها تستقر على الورق. احدى هذه العبارات جعلتني افكر فيك (( افعل الشيء الذي يجعلك سعيداً لانك ستؤديه على اكمل وجه)).
    طقطق البراد ثم صمت، ادركت حينها انها لم تكن تعي كل تلك الضجة الصادرة عنه، في غيبته بدا البيت وكأنه متعلق بنفس السؤال، كيف يمكن ان تكون حياتها لو انها استطاعت ان ترسل ولو رسالة واحدة من تلك الرسائل؟ لكن هواء البيت لم يعطها رداً ولا جواب ورجع الى دورته البطيئة.


    -7-
    في وقت ما كانت ستطوي الرسائل وتضعها في الاظرف، تضع الاظرف في الحقيبة، الحقيبة في العلبة، العلبة في الصندوق وستغطيها بطبقات من القماش ثم ترجع المقعد وتغلقه، لكن الان هي تجلس فقط بينما انفاس القطط المبتهجة تملأ المنزل.
يعمل...