مقدمــــــــــــــــــــــــــة
الحمد لله الرحيم الرحمن، خالق الأرض والسماء والأكوان، الذي كرم الإنسان، وعلمه المنطق واللسان، وميزه بالعقل والبنان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد بن عبدالله النبي الناطق بلسان عربي ببالغ البيان، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.. أما بعد
هذا كتاب قواعد وأسس صنعة الترجمة، أضعه بين يدي المتلقي العربي الكريم، متضمناً خلاصة ما خبرته من تجارب عملية، وما استخلصته من الدراسات النظرية خلال فترة تربو على العقدين، تجولت فيها بين صنوف وفنون الترجمة بلغات مختلفة، وعايشت خلالها التطور الكبير الذي شهدته صناعة الترجمة على المستوى العالمي، وسعيت من خلاله إلى تقديم تصور واضح لصنعة الترجمة، يقوم على تطبيق منظور ومفهوم الصنعة، واستعراض أساسيات وجوهر العمليات التي تتم في إطار هذه الصنعة، وجاء تناولي من منطلق أن عملية الترجمة أشبه ما تكون بالترحال بين بقاع مختلفة، والمترجم –وقد يرافقه المتلقي- مسافر بين النصوص، وكل نص هو بمثابة منطقة جديدة لها سماتها وجغرافيتها وخصائصها، وعلى المترجم أن يضمن عودته من كل رحلة دون أن يضل أو تتقطع به الدروب، والضمان الوحيد للعودة الآمنة هو أن يتسلح المترجم بأدوات ومهارات لغوية تتيح له فهم ومعرفة ما قد يلقاه أثناء رحلته تلك، فلا تهاجمه أشباح الغموض الناتج عن قصور معرفته اللغوية، ولابد له من خارطة يهتدي بها ليضمن أمن الطرق التي يسير فيها، وهذه الخارطة ترسم خطوطها معرفته بثقافة لغات النصوص التي يعرض لترجمتها، لكن المغنم من هذه الرحلات لا يتجسد إلا في نجاح المترجم في إعادة رسم لما رآه من تفاصيل داخل كل نص يزوره، فلا خير في ترحال وسط نصوص اللغة المصدر دون أن يكون لدى المترجم القدرة على إعادة تجسيدها ومحاكاتها بلغة الهدف، فهذا هو جوهر صنعة المترجم...
لقد سعيت إلى تبيان القضايا والمفاهيم المختلفة من خلال أساليب وتعبيرات أيسر مما قد يجده القارئ الكريم عند مطالعته لما اختص بهذه الأفكار والقضايا من مراجع ومؤلفات، فلم أعمد إلى الإغراق في تبسيط يأخذ القارئ بعيداً عن ما قد يجده في الكتب والمؤلفات الرصينة البليغة، أو التخصصية العلمية، ولم ألق بالتعبيرات في غياهب الاستخدام الاصطلاحي المبهم الذي يرهق عقل القارئ، بل كنت بين ذلك قواماً، فصار من السهل على القارئ مهما كان هدفه من التجول بين دفتي هذا الكتاب أن يدرك المعنى دون مشقة أو عناء، وقد حاولت أن أثري محتوى الكتاب بتناول وشرح بعض الموضوعات ذات الصلة، والتي يمكن للقارئ أن يستغني بها عن البحث، وتجنبه عناء البحث، و حرصت أن أتفادى استخدام التعبيرات الأجنبية إلا للإشارة لما يلزم، أو يقتضيه السياق ووجوب الذكر، وذلك إثباتاً أن لغتنا العربية قادرة على التعبير عن أي مصطلح أجنبي بصورة لا لبس فيها ولا غموض، إن خلصت نيتنا في الاعتماد على لغتنا العربية، وقد استخدمت نماذج لغوية بسيطة يعرفها من له دراية أساسية باللغة الأجنبية، للتدليل على القواعد، وتقريب المعنى والمفهوم، فحتى من لم يتخصص في دراسة اللغة في المرحلة الجامعية يمكنه أن يدرك معاني الأمثلة التي استخدمت فيها كلمات وتعابير أجنبية بسيطة، ويستخلص منها القواعد والأسس التي يمكنه أن يطبقها على أي لغة أجنبية وعند أي مستوى لغوي.
كم كنت أعجب من ربط تدريس أصول وقواعد وفنون الترجمة والتدريب عليها بلغة أجنبية محددة، وكثيراً ما كنت أسمع من تلامذتي وطلابي رغبتهم في تعلم الترجمة الأدبية –مثلاً- باللغة الإنجليزية، أو دراسة الترجمة القانونية بالفرنسية، أو التدريب على الترجمة الصحفية باللغة الألمانية، وهكذا!! وكأن قواعد وأسس الترجمة تتغير من لغة لأخرى!!! فأردت من خلال كتابي هذا، ومن خلال سلسلة الدورات التدريبية التي مزجت فيها بين متدربين درسوا لغات مختلفة، أن أبرهن أنه يمكن لمترجمينا العرب أن يتعلموا ويتقنوا مهارات الترجمة، ويصبحوا قادرين على تطبيقها في إطار أي لغة من خلال تدريس ذلك بلغتنا العربية، وتدريبهم عليها بلغتنا العرب.
وكنت في ختام كل دورة تدريبية أخلص معهم إلى أن حصر التدريب على الترجمة بلغة أجنبية معينة، هو ضرب من ضروب التصور الخاطئ للعلاقة التي تربط بين الترجمة واللغة، وأن النمط التقليدي لتعلم الترجمة والتدريب عليها من خلال مقارنة بين نصوص عربية وأجنبية وفق اللغات التي درسوها مجرد قيد مفتعل، وضيق أفق يغلفه الفهم الخاطئ لصنعة الترجمة، وأن هذه الطريقة البدائية هي التي تسببت فيما يعانيه البعض من جهل بفنون الترجمة وعلومها وتطبيقاتها العملية...
إن المكتبتين العربية والعالمية تحفلان بالعديد من المؤلفات التي تناولت اللغة وعلومها والترجمة وفنونها، سواء بالعربية أو غيرها من اللغات، وجميعها لها إسهاماتها القيمة في رسم أبعاد علوم الترجمة وفنونها، والتنظير لأسسها وتأطيهرها، إلا أن القليل منها الذي تطرق إلى التعامل مع الترجمة كصنعة، وتناولها من منظور التطبيق العملي الإحترافي، خاصة على مستوى ما كتب بالعربية أو نقل إليها من اللغات الأخرى، فغالبية المؤلفات التي تناولت الترجمة ركزت على التناول النظري، والأطر المنهجية، وحتى تلك التي ضم محتواها نماذج تطبيقية ركز على التعامل في إطار أزواج لغوية بعينها، وهذا لا يقلل من قدر ما بذله أساتذتنا وزملائنا من جهود صاغوها في أفكارهم التي حفلت بها مؤلفاتهم، إلا أن تلك المؤلفات التي تناولت الترجمة وأصولها وفق الممارسات العملية لمهنة الترجمة قليلة، إذا ما قورنت بهذا الكم الهائل الذي وضعت مؤلفاتها اعتماداً على البحث النظري والدراسات الوصفية، وهذا ما جعل الكثير من هذه المؤلفات يغفل عن تناول الجوانب المهنية وفق ما فرضه سوق العمل.
لقد جاء هذا الكتاب مقسماً إلى سبعة أقسام تلت هذه المقدمة الاستهلالية المرحبة بالقارئ، والمعرفة بالغاية والهدف من هذا المؤلف، ففي القسم الأول عرضت إلى الحديث عن اللغة بوصفها الأرض التي نبتت فيها شجرة الترجمة، مؤكداً على أن الترجمة هي ابنة اللغة، وأن الترجمة الأصيلة هي تلك التي تحمل السمات الفكرية للغة المصدر، وتظهرها على هيئة ملامح وسمات واضحة باللغة الهدف، وفي حال غياب هذه السمات أو عدم ظهورها تكون الترجمة هجيناً مستغرباً، وسعيت من خلال الموضوعات والنقاط التي وضعتها بين يدي القارئ الكريم إلى تناول القضايا والمفاهيم التي تتعلق باللغة عموماً في إطار من التبسيط الرصين، البعيد عن التعقيد وذلك دون تسطيح مستخف أو تعقيد متلف، ومن ثم كان هذا القسم نقطة الانطلاق في رحلتنا إلى عوالم الترجمة متشعبة الدروب. أما القسم الثاني فوقفت بالقارئ على أعتاب عالم الترجمة، متفحصاً معه الأسباب التي استوجبت منح الترجمة كل هذا القدر من الاهتمام، ومستعرضاً تاريخ نشأة فنها في إيجاز يسير، ومركزاً على دور العرب في رسم الملامح الأساسية لحركة الترجمة الإنسانية عبر العصور العربية المختلفة، لنلج بعد ذلك عبر بوابات مفاهيم وتعاريف الترجمة، لنشرع في التعرف على أنواعها وأنماطها، واستعراض الأسس النظرية التي أطرت حدود علم الترجمة، ونبين الصعوبات والتحديات التي تعترض المترجم الصانع عند قيامه بعملية الترجمة، وطرق التغلب عليها والاستفادة منها، لنفتح بذلك آفاقاً جديدة ترسم لنا الدرب إلى جوهر صنعة الترجمة.
يأتي القسم الثالث مركزاً على عملية الترجمة ذاتها، فنتناول العمليات الأولية والخطوات التحضيرية التي تسبق عملية الترجمة الرئيسية، وذلك لأهمية تلك الخطوات وبالغ أثرها في التأسيس لما يليها من عمليات رئيسية أو ختامية، وفي هذه الجزئية نتناول عملية القراءة الترجمية، أو القراءة لأغراض الترجمة، لتتغير وجهة النظر الشائعة التي ترى في القراءة وسيلة للثقافة وأداة للاستمتاع، فنكشف دورها وقدرها وما تمثله كعملية جزئية استهلالية من مجمل عمليات الترجمة، ويعقب ذلك خارطة تحدد المسالك المختلفة التي تفرضها أنواع النصوص، والتي تؤثر على بدء عملية الترجمة، فنستعرض أنواع النصوص المختلفة، وسماتها وما يستوجبه ذلك من مراعاة خصائص كل نوع، ثم أختتم هذا القسم بالحديث عن العمليات الختامية التي تلي المرحلة الرئيسية لعملية الرئيسية، لنوضح أهمية المراجعة والتدقيق، ونفرق بين الوظائف المختلفة المرتبطة بهذه المرحلة النهائية من عملية الترجمة، و نظراً لأن حقيقة عملية الترجمة أنها عملية ذهنية ترتبط بالعقل الإنساني، وتتوقف على قدرات الإدراك والفهم الصحيح للمعنى، أردت من خلال القسم الرابع أن أدعو المتلقي الكريم إلى التجول في عالم الترجمة من منظور جديد، يركز على تفسير وتتبع العمليات البينية للترجمة في إطار التعامل العقلي الذهني، لنستكشف تلك العمليات ونقف عند السمات العضوية لأعضاء المنظومة الذهنية البشرية، ونبين دور المخ والعقل في التعامل مع النصوص المترجمة، ونبين العوامل غير الملموسة التي تؤثر في سير هذه العمليات، ونربط بين الترجمة والقدرات الذهنية، ونستكشف المعوقات الناجمة عن الصعوبات الإدراكية، وطرق التغلب عليها، ونبين المهارات العقلية التي يتعين على المترجم اكتسابها وتطويرها بما يضمن له التميز في مجال هذه الصنعة.
ينتقل بنا القسم الخامس إلى الحديث عن الترجمة من وجهة نظر إحترافية، سعيت من خلالها إلى توضيح وترسيخ المبادئ الرئيسية لصنعة الترجمة من خلال رؤية مهنية، فجاء حديثي عن الأسس المهنية لصنعة الترجمة، وما يتعلق بالمترجم المهني الصانع، ومنتجات صنعته، والقواعد المهنية والقياسية والأخلاقية الضابطة لممارساته في إطار سوق الترجمة العالمي، وألقي الضوء على الأدوات التي يستعين بها المترجم العصري، ومبيناً طرق أيسر الطرق للحصول عليها، وسبل الاستفادة منها. الترجمة نشاط إنساني في عمومه، وممارسة مهنية في صنعته، وقد أدى هذا الترابط بين الترجمة والأنشطة الإنسانية عموماً وما يتعلق بالثقافة على وجه الخصوص إلى بزوغ عدد من القضايا التي رأيت أن أتناول أهمها في القسم السادس، فجاء الحديث عن الترجمة والثقافة ودور كل منهما في التأثير والتأثر بالأخرى، وظهور الترجمات المختلفة للنص الواحد، ودور الترجمة في بناء علم وحضارة الأمة من خلال مجهودات التعريب والنقل. آتي بقارئي الكريم عند القسم السابع متضمناً عرض ختامي لأهم الملاحق ذات الصلة بالقضايا التي وقفت معه عندها، وقائمة بأهم المراجع والمصادر التي قد يرغب في الإطلاع عليها للاستزادة والتعمق في مزيد من التفاصيل، أو للوقوف على بعض الأطر النظرية التي لم أتوقف عندها خلال تجوالنا في عالم صنعة الترجمة وعلى دروب التعامل المهني الإحترافي.
وختاماً فإن كتابي هذا ما هو إلا محاولة أشرُف بأن أضمها إلى جهود أسلافي وأقراني ممن شغلتهم الترجمة وعلومها وفنونها وصنعتها، سعيت من خلاله أن أرسم طرقاً واضحة يمكن للمترجم المبتدئ أن يصل من خلالها إلى حقيقة وجوهر الصنعة وأسسها، وأضع بين يديه مصباحاً يزيل ظلمة الوهم والغموض عن تلك الصنعة التي يسعى للدخول إلى عالمها. كذلك فإن ما حواه هذا المؤلف يضيف إلى جملة ما طرحه أساتذتي وزملائي من مؤلفات، إذ أنه يتناول بوضوح وإيجاز أسس وأصول التعامل المهني مع الصنعة، ولم يغب عني المتلقي غير المنخرط في صنعة الترجمة، إلا من قبيل شغفه باستشراف عالم الترجمة، فسعيت أن أصل به إلى جوهر صنعة الترجمة، موضحاً له حقيقة رسالة الترجمة، ودور المترجم، وأساليب الصنعة وتحدياتها، لكي يمكن لهذا القارئ أن يدرك معنى الترجمة وصنعتها، ويخلع عصابة الوهم الذي استشرى بين الكثير من أولئك الذين ينظرون للترجمة بوصفها ترف ثقافي، أو استبدال لفظي، أو عملية ميكانيكية، وذلك تقديراً لدور هذا القارئ في صنع رأي عام يرتقي بالترجمة ويصحح وجهة النظر حول المترجم وصنعته.
والله ولي التوفيق
للتحميل : يمكن تحميل النسخة الإلكترونية من الكتاب عبر أحد الروابط التالية
من هنا.. إضغط للتحميل
أو هنـــــــــــــــــــــــــــــا
الحمد لله الرحيم الرحمن، خالق الأرض والسماء والأكوان، الذي كرم الإنسان، وعلمه المنطق واللسان، وميزه بالعقل والبنان، والصلاة والسلام على سيدنا محمد بن عبدالله النبي الناطق بلسان عربي ببالغ البيان، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان.. أما بعد
هذا كتاب قواعد وأسس صنعة الترجمة، أضعه بين يدي المتلقي العربي الكريم، متضمناً خلاصة ما خبرته من تجارب عملية، وما استخلصته من الدراسات النظرية خلال فترة تربو على العقدين، تجولت فيها بين صنوف وفنون الترجمة بلغات مختلفة، وعايشت خلالها التطور الكبير الذي شهدته صناعة الترجمة على المستوى العالمي، وسعيت من خلاله إلى تقديم تصور واضح لصنعة الترجمة، يقوم على تطبيق منظور ومفهوم الصنعة، واستعراض أساسيات وجوهر العمليات التي تتم في إطار هذه الصنعة، وجاء تناولي من منطلق أن عملية الترجمة أشبه ما تكون بالترحال بين بقاع مختلفة، والمترجم –وقد يرافقه المتلقي- مسافر بين النصوص، وكل نص هو بمثابة منطقة جديدة لها سماتها وجغرافيتها وخصائصها، وعلى المترجم أن يضمن عودته من كل رحلة دون أن يضل أو تتقطع به الدروب، والضمان الوحيد للعودة الآمنة هو أن يتسلح المترجم بأدوات ومهارات لغوية تتيح له فهم ومعرفة ما قد يلقاه أثناء رحلته تلك، فلا تهاجمه أشباح الغموض الناتج عن قصور معرفته اللغوية، ولابد له من خارطة يهتدي بها ليضمن أمن الطرق التي يسير فيها، وهذه الخارطة ترسم خطوطها معرفته بثقافة لغات النصوص التي يعرض لترجمتها، لكن المغنم من هذه الرحلات لا يتجسد إلا في نجاح المترجم في إعادة رسم لما رآه من تفاصيل داخل كل نص يزوره، فلا خير في ترحال وسط نصوص اللغة المصدر دون أن يكون لدى المترجم القدرة على إعادة تجسيدها ومحاكاتها بلغة الهدف، فهذا هو جوهر صنعة المترجم...
لقد سعيت إلى تبيان القضايا والمفاهيم المختلفة من خلال أساليب وتعبيرات أيسر مما قد يجده القارئ الكريم عند مطالعته لما اختص بهذه الأفكار والقضايا من مراجع ومؤلفات، فلم أعمد إلى الإغراق في تبسيط يأخذ القارئ بعيداً عن ما قد يجده في الكتب والمؤلفات الرصينة البليغة، أو التخصصية العلمية، ولم ألق بالتعبيرات في غياهب الاستخدام الاصطلاحي المبهم الذي يرهق عقل القارئ، بل كنت بين ذلك قواماً، فصار من السهل على القارئ مهما كان هدفه من التجول بين دفتي هذا الكتاب أن يدرك المعنى دون مشقة أو عناء، وقد حاولت أن أثري محتوى الكتاب بتناول وشرح بعض الموضوعات ذات الصلة، والتي يمكن للقارئ أن يستغني بها عن البحث، وتجنبه عناء البحث، و حرصت أن أتفادى استخدام التعبيرات الأجنبية إلا للإشارة لما يلزم، أو يقتضيه السياق ووجوب الذكر، وذلك إثباتاً أن لغتنا العربية قادرة على التعبير عن أي مصطلح أجنبي بصورة لا لبس فيها ولا غموض، إن خلصت نيتنا في الاعتماد على لغتنا العربية، وقد استخدمت نماذج لغوية بسيطة يعرفها من له دراية أساسية باللغة الأجنبية، للتدليل على القواعد، وتقريب المعنى والمفهوم، فحتى من لم يتخصص في دراسة اللغة في المرحلة الجامعية يمكنه أن يدرك معاني الأمثلة التي استخدمت فيها كلمات وتعابير أجنبية بسيطة، ويستخلص منها القواعد والأسس التي يمكنه أن يطبقها على أي لغة أجنبية وعند أي مستوى لغوي.
كم كنت أعجب من ربط تدريس أصول وقواعد وفنون الترجمة والتدريب عليها بلغة أجنبية محددة، وكثيراً ما كنت أسمع من تلامذتي وطلابي رغبتهم في تعلم الترجمة الأدبية –مثلاً- باللغة الإنجليزية، أو دراسة الترجمة القانونية بالفرنسية، أو التدريب على الترجمة الصحفية باللغة الألمانية، وهكذا!! وكأن قواعد وأسس الترجمة تتغير من لغة لأخرى!!! فأردت من خلال كتابي هذا، ومن خلال سلسلة الدورات التدريبية التي مزجت فيها بين متدربين درسوا لغات مختلفة، أن أبرهن أنه يمكن لمترجمينا العرب أن يتعلموا ويتقنوا مهارات الترجمة، ويصبحوا قادرين على تطبيقها في إطار أي لغة من خلال تدريس ذلك بلغتنا العربية، وتدريبهم عليها بلغتنا العرب.
وكنت في ختام كل دورة تدريبية أخلص معهم إلى أن حصر التدريب على الترجمة بلغة أجنبية معينة، هو ضرب من ضروب التصور الخاطئ للعلاقة التي تربط بين الترجمة واللغة، وأن النمط التقليدي لتعلم الترجمة والتدريب عليها من خلال مقارنة بين نصوص عربية وأجنبية وفق اللغات التي درسوها مجرد قيد مفتعل، وضيق أفق يغلفه الفهم الخاطئ لصنعة الترجمة، وأن هذه الطريقة البدائية هي التي تسببت فيما يعانيه البعض من جهل بفنون الترجمة وعلومها وتطبيقاتها العملية...
إن المكتبتين العربية والعالمية تحفلان بالعديد من المؤلفات التي تناولت اللغة وعلومها والترجمة وفنونها، سواء بالعربية أو غيرها من اللغات، وجميعها لها إسهاماتها القيمة في رسم أبعاد علوم الترجمة وفنونها، والتنظير لأسسها وتأطيهرها، إلا أن القليل منها الذي تطرق إلى التعامل مع الترجمة كصنعة، وتناولها من منظور التطبيق العملي الإحترافي، خاصة على مستوى ما كتب بالعربية أو نقل إليها من اللغات الأخرى، فغالبية المؤلفات التي تناولت الترجمة ركزت على التناول النظري، والأطر المنهجية، وحتى تلك التي ضم محتواها نماذج تطبيقية ركز على التعامل في إطار أزواج لغوية بعينها، وهذا لا يقلل من قدر ما بذله أساتذتنا وزملائنا من جهود صاغوها في أفكارهم التي حفلت بها مؤلفاتهم، إلا أن تلك المؤلفات التي تناولت الترجمة وأصولها وفق الممارسات العملية لمهنة الترجمة قليلة، إذا ما قورنت بهذا الكم الهائل الذي وضعت مؤلفاتها اعتماداً على البحث النظري والدراسات الوصفية، وهذا ما جعل الكثير من هذه المؤلفات يغفل عن تناول الجوانب المهنية وفق ما فرضه سوق العمل.
لقد جاء هذا الكتاب مقسماً إلى سبعة أقسام تلت هذه المقدمة الاستهلالية المرحبة بالقارئ، والمعرفة بالغاية والهدف من هذا المؤلف، ففي القسم الأول عرضت إلى الحديث عن اللغة بوصفها الأرض التي نبتت فيها شجرة الترجمة، مؤكداً على أن الترجمة هي ابنة اللغة، وأن الترجمة الأصيلة هي تلك التي تحمل السمات الفكرية للغة المصدر، وتظهرها على هيئة ملامح وسمات واضحة باللغة الهدف، وفي حال غياب هذه السمات أو عدم ظهورها تكون الترجمة هجيناً مستغرباً، وسعيت من خلال الموضوعات والنقاط التي وضعتها بين يدي القارئ الكريم إلى تناول القضايا والمفاهيم التي تتعلق باللغة عموماً في إطار من التبسيط الرصين، البعيد عن التعقيد وذلك دون تسطيح مستخف أو تعقيد متلف، ومن ثم كان هذا القسم نقطة الانطلاق في رحلتنا إلى عوالم الترجمة متشعبة الدروب. أما القسم الثاني فوقفت بالقارئ على أعتاب عالم الترجمة، متفحصاً معه الأسباب التي استوجبت منح الترجمة كل هذا القدر من الاهتمام، ومستعرضاً تاريخ نشأة فنها في إيجاز يسير، ومركزاً على دور العرب في رسم الملامح الأساسية لحركة الترجمة الإنسانية عبر العصور العربية المختلفة، لنلج بعد ذلك عبر بوابات مفاهيم وتعاريف الترجمة، لنشرع في التعرف على أنواعها وأنماطها، واستعراض الأسس النظرية التي أطرت حدود علم الترجمة، ونبين الصعوبات والتحديات التي تعترض المترجم الصانع عند قيامه بعملية الترجمة، وطرق التغلب عليها والاستفادة منها، لنفتح بذلك آفاقاً جديدة ترسم لنا الدرب إلى جوهر صنعة الترجمة.
يأتي القسم الثالث مركزاً على عملية الترجمة ذاتها، فنتناول العمليات الأولية والخطوات التحضيرية التي تسبق عملية الترجمة الرئيسية، وذلك لأهمية تلك الخطوات وبالغ أثرها في التأسيس لما يليها من عمليات رئيسية أو ختامية، وفي هذه الجزئية نتناول عملية القراءة الترجمية، أو القراءة لأغراض الترجمة، لتتغير وجهة النظر الشائعة التي ترى في القراءة وسيلة للثقافة وأداة للاستمتاع، فنكشف دورها وقدرها وما تمثله كعملية جزئية استهلالية من مجمل عمليات الترجمة، ويعقب ذلك خارطة تحدد المسالك المختلفة التي تفرضها أنواع النصوص، والتي تؤثر على بدء عملية الترجمة، فنستعرض أنواع النصوص المختلفة، وسماتها وما يستوجبه ذلك من مراعاة خصائص كل نوع، ثم أختتم هذا القسم بالحديث عن العمليات الختامية التي تلي المرحلة الرئيسية لعملية الرئيسية، لنوضح أهمية المراجعة والتدقيق، ونفرق بين الوظائف المختلفة المرتبطة بهذه المرحلة النهائية من عملية الترجمة، و نظراً لأن حقيقة عملية الترجمة أنها عملية ذهنية ترتبط بالعقل الإنساني، وتتوقف على قدرات الإدراك والفهم الصحيح للمعنى، أردت من خلال القسم الرابع أن أدعو المتلقي الكريم إلى التجول في عالم الترجمة من منظور جديد، يركز على تفسير وتتبع العمليات البينية للترجمة في إطار التعامل العقلي الذهني، لنستكشف تلك العمليات ونقف عند السمات العضوية لأعضاء المنظومة الذهنية البشرية، ونبين دور المخ والعقل في التعامل مع النصوص المترجمة، ونبين العوامل غير الملموسة التي تؤثر في سير هذه العمليات، ونربط بين الترجمة والقدرات الذهنية، ونستكشف المعوقات الناجمة عن الصعوبات الإدراكية، وطرق التغلب عليها، ونبين المهارات العقلية التي يتعين على المترجم اكتسابها وتطويرها بما يضمن له التميز في مجال هذه الصنعة.
ينتقل بنا القسم الخامس إلى الحديث عن الترجمة من وجهة نظر إحترافية، سعيت من خلالها إلى توضيح وترسيخ المبادئ الرئيسية لصنعة الترجمة من خلال رؤية مهنية، فجاء حديثي عن الأسس المهنية لصنعة الترجمة، وما يتعلق بالمترجم المهني الصانع، ومنتجات صنعته، والقواعد المهنية والقياسية والأخلاقية الضابطة لممارساته في إطار سوق الترجمة العالمي، وألقي الضوء على الأدوات التي يستعين بها المترجم العصري، ومبيناً طرق أيسر الطرق للحصول عليها، وسبل الاستفادة منها. الترجمة نشاط إنساني في عمومه، وممارسة مهنية في صنعته، وقد أدى هذا الترابط بين الترجمة والأنشطة الإنسانية عموماً وما يتعلق بالثقافة على وجه الخصوص إلى بزوغ عدد من القضايا التي رأيت أن أتناول أهمها في القسم السادس، فجاء الحديث عن الترجمة والثقافة ودور كل منهما في التأثير والتأثر بالأخرى، وظهور الترجمات المختلفة للنص الواحد، ودور الترجمة في بناء علم وحضارة الأمة من خلال مجهودات التعريب والنقل. آتي بقارئي الكريم عند القسم السابع متضمناً عرض ختامي لأهم الملاحق ذات الصلة بالقضايا التي وقفت معه عندها، وقائمة بأهم المراجع والمصادر التي قد يرغب في الإطلاع عليها للاستزادة والتعمق في مزيد من التفاصيل، أو للوقوف على بعض الأطر النظرية التي لم أتوقف عندها خلال تجوالنا في عالم صنعة الترجمة وعلى دروب التعامل المهني الإحترافي.
وختاماً فإن كتابي هذا ما هو إلا محاولة أشرُف بأن أضمها إلى جهود أسلافي وأقراني ممن شغلتهم الترجمة وعلومها وفنونها وصنعتها، سعيت من خلاله أن أرسم طرقاً واضحة يمكن للمترجم المبتدئ أن يصل من خلالها إلى حقيقة وجوهر الصنعة وأسسها، وأضع بين يديه مصباحاً يزيل ظلمة الوهم والغموض عن تلك الصنعة التي يسعى للدخول إلى عالمها. كذلك فإن ما حواه هذا المؤلف يضيف إلى جملة ما طرحه أساتذتي وزملائي من مؤلفات، إذ أنه يتناول بوضوح وإيجاز أسس وأصول التعامل المهني مع الصنعة، ولم يغب عني المتلقي غير المنخرط في صنعة الترجمة، إلا من قبيل شغفه باستشراف عالم الترجمة، فسعيت أن أصل به إلى جوهر صنعة الترجمة، موضحاً له حقيقة رسالة الترجمة، ودور المترجم، وأساليب الصنعة وتحدياتها، لكي يمكن لهذا القارئ أن يدرك معنى الترجمة وصنعتها، ويخلع عصابة الوهم الذي استشرى بين الكثير من أولئك الذين ينظرون للترجمة بوصفها ترف ثقافي، أو استبدال لفظي، أو عملية ميكانيكية، وذلك تقديراً لدور هذا القارئ في صنع رأي عام يرتقي بالترجمة ويصحح وجهة النظر حول المترجم وصنعته.
والله ولي التوفيق
للتحميل : يمكن تحميل النسخة الإلكترونية من الكتاب عبر أحد الروابط التالية
من هنا.. إضغط للتحميل
أو هنـــــــــــــــــــــــــــــا
تعليق