المنسيون أو البدون في الدولة العثمانية
ربما لا يعرف أحد بالضبط، ذلك الخبيث الماكر الذي كان أول من ابتكر مصطلح "البدون"، وطرحه للاستخدام للمرة الاولى في تاريخ اللغة العربية. لقد ترسخ استعمال هذا المصطلح العجيب الغريب في الكويت في بداية الأمر، ثم شاع استعماله بين سائر العرب فيما بعد، ولم أسمع أن مجمعات اللغة العربية قد تناولت هذا المصطلح بالبحث، أو أنها قامت بتثبيته، أو بايجاد بديل فصيح له، وإن كان البعض يفسره أحيانا بتعبير "غير محدد الجنسية" أو "غير محدد الوطن" وأحيانا يتم تفسيره بتعبير "بلا وطن".
فكيف يكون الانسان بلا وطن إلا في دولتين عظيمتين عصريتين مثل الكويت وإسرائيل، ومن لف لفهما من الدول التي لا زالت تمارس سياسات التمييز العنصري، في زمن أصبح التمييز العنصري فيه من مخلفات الماضي، ودليلا قبيحا بشعا من الأدلة المخزية على الجهل والتخلف؟
في لبنان سمعنا أن عرب وادي خالد أيضا هم من المنسيين أو البدون، وأنهم لا يزالون يعانون ويمنعون من الحصول على الجنسية اللبنانية، رغم أنهم مواطنون لبنانيون، بسبب أن آبائهم وأجدادهم قاموا -انتصارا لعروبتهم ولبنانيتهم- بمقاطعة الاحصاء الرسمي الذي قام الاستعمار الفرنسي بتنظيمه في القرن الماضي، والذي اعتمدته فيما بعد الحكومات اللبنانية المتعاقبة، والتي ورثت البلاد والعباد عن المستعمرين الفرنسيين.
أما في زمن الدولة العثمانية، فقد كان المواطنون على اختلاف مذاهبهم وأعراقهم يعتبرون من التابعية أو الجنسية العثمانية، أما الذين يحدث (ولسبب ما) أن يفوتهم التسجيل في سجلات النفوس والأحوال المدنية، فلم يكن يقال لهم بدون، وإنما كان يقال لهم (مكتومون) بالتعبير العثماني والتي تعني (منسيون) باللغة العربية. وكان بامكان هؤلاء (المنسيين) أن يتقدموا بكل فخر واعتزاز، وفي أي وقت من الاوقات، إلى السلطات العثمانية، حيث كانت تنظم بحقهم معاملة تسمى معاملة المكتومين أي المنسيين، مقابلة غرامة تأخير معينة، يدفعها منهم المقتدرون ماليا فقط، ويعفى منها الذين يثبتون عدم مقدرتهم على الدفع، ثم يتم تسجيلهم في السجلات الرسمية العثمانية بشكل روتيني، مع كامل الاحترام والتقدير، من أجل أن يتمكنوا من مواصلة حياتهم بشكل عادي، مثل سائر المواطنين العثمانيين الآخرين.
لمصلحة من تحرم هذه الفئة المظلومة والمسحوقة من البشر من أبسط حقوق الانسان، بعد كل هذه السنين التي مرت على اصدار الاعلان العالمي لحقوق الانسان؟ وإلى متى يستمر مسلسل الظلم والحرمان لهذه الشريحة المهمشة من أهل الكويت؟ وهل هناك أي شرف يلحق بالدول المعنية جراء ابقائها ومحافظتها على هذا الوضع المزري، وغير الانساني، وغير الأخلاقي لهذه الفئة المسكينة؟ وهل يستطيع شرفاء الكويت الانتصار لعقيدتهم ولانسانيتهم ولكرامة بلدهم، وانصاف هؤلاء المنسيين وكسبهم، وإعادة البسمة ألى شفاههم وشفاه أبنائهم؟
الحرمان من جنسية مثل هذه الدول العظمى قد نفهمه أو نتفهمه، وإن كنا نرفضه ولا نقبله ولا نقره، لكننا لا نستطيع أن نفهم المعنى والمبرر لحرمان أي شخص - كائنا من كان – من رخصة قيادة المركبات ... شهادات الميلاد والوفاة ... عقود الزواج والطلاق ... التعليم في المدارس الحكومية ... والامكانيات الاخرى المختلفة التي تتاح للاجانب حتى في أكثر دول العالم تقدما ورقيا وحضارة...؟
وفي نهاية الأمر، تبقى قضية البدون عارا على جبين الدول المعنية ... وعارا على جبين العرب ... بل وعارا على جبين الانسانية جمعاء ... فلتخجلوا من أنفسكم ... وليخجل من ذلك العبيد ... وليخجل من ذلك الاحرار ... ولا حول ولا قوة إلا بالله ...
منذر أبو هواش
تعليق