أزمة نظام ... الحلقة الأولى آخر تحديث:الأربعاء ,28/01/2009
الرأسمالية عاشت على الأكاذيب والحروب منذ نشأتها قبل 500 عام
تأليف: د. عبدالحي زلوم
1/1
في كتابه “نذر العولمة” الذي صدر سنة 1998 بيّن د. عبدالحي زلوم أن النظام الرأسمالي قد ركب ثورة المعلومات فأوجد نظاماً اقتصادياً مالياً موازياً للاقتصاد المنتج، وأصبح عبئاً عليه يعيش على المضاربة فحوّل أسواق المال إلى كازينوهات للمقامرة تصب في جيوب بارونات المال العالميين.
وفي كتابه “امبراطورية الشر الجديدة” أوضح د. عبدالحي زلوم أن عقد التسعينات كان كعقد العشرينات وأن الأسباب نفسها تعطي النتائج نفسها. فكما كانت نتيجة ممارسات العشرينات كساداً كبيراً دام أكثر من عشر سنين، بيّن د. زلوم أن العقد الأول من القرن الواحد والعشرين سيشهد انهياراً اقتصادياً، بحيث كان الفصل الأخير من كتاب
“حروب البترول الصليبية” لسنة 2005 معنوناً : الإمبراطورية الأمريكية: نهايتها سكتة قلبية اقتصادية.
هذا الكتاب “أزمة نظام” يبين أن النظام الرأسمالي قديمه جديد وجديده قديم، يعيش على الحروب واستلاب ثروات الآخرين، وأن “تاريخ صلاحيته” قد قاربت نهايتها.
د. عبدالحي زلوم : أنهى دراسته الابتدائية والثانوية في القدس، والجامعية الأولى والعليا في الهندسة والإدارة والإدارة العليا في جامعات الولايات المتحدة بما فيها جامعة هارفارد. ولقد تعايش وخبر النظام الأمريكي لأكثر من نصف قرن، كما عمل مع العديد من الشركات العبرقطرية في الولايات المتحدة وأوروبا، كما عمل مستشاراً عالمياً في قطاع النفط وله ستة مؤلفات في الاقتصاد السياسي.
في كتابنا “نذر العولمة” بيّنا أن الرأسمالية المعلومالية قد مزجت بين قوة المال وقوة الإعلام وقوة علوم التسويق للبضائع والسياسيين، وهذه العناصر أسميناها في كتابنا إياه بالإنجليزية The Three Ms لأنها جميعاً تبدأ بالحرف M Money) ، Media،(Marketing .
وحيث تم تغيير مفهوم المال حتى أصبح بدوره سلعة من السلع، صار وهماً ونبضة في كمبيوترات البنوك والشركات المالية، وصار غسل دماغ الجماهير الدعامة الأساسية لهذا الثالوث، وذلك النظام، فأصبح دور الإعلام طاغياً، مما جعل أصحاب البيوتات والمؤسسات المالية وأصحابها يهرعون لاحتكار أجهزة الإعلام المختلفة ليتقلص عدد شركاتها الكبرى من 30 إلى 5 خلال آخر عقدين، تربع على رأس هذه الشركات الخمس أصحاب البنوك أنفسهم. وحين كتابة هذه السطور كان رؤساء هذه الشركات الخمس من ملة واحدة!
عندما زار وفد صحافي من الاتحاد السوفييتي الولايات المتحدة في الثمانينات من القرن الماضي، وقبل مغادرتهم، سأل أحدهم ضيوفه الأمريكان : “كيف تستطيع ماكينة الإعلام الأمريكية أن تتحكم لهذه الدرجة، حيث إننا وجدنا الرسالة نفسها، والنص نفسه في سائر أنحاء الولايات المتحدة ومن مؤسسات الإعلام كافة، وبطريقة لم نستطع نحن في الاتحاد السوفييتي تحقيقها رغم تمركز آلة الإعلام بأيدي حزبنا”.
نقتبس في هذا الكتاب قول البروفيسور كويغلي Quigly من جامعة جورج تاون، والذي علّم طلابه (ومنهم بيل كلينتون) أن برامج الحزبين الأمريكيين في جوهرهما برنامج واحد في خطوطه العريضة، وأن الإدارات التي تأتي للسلطة تأتي لتنفيذ تلك المخططات مع حرية حركة تكتيكية محدودة. وتتحمل الإدارات الأمريكية كل “أوساخ” تلك البرامج باعتبارهم المسؤولين عنها، وذلك بمنأى عن أصحاب النظام الحقيقيين الذين جيّروا تلك البرامج لمصالحهم الضيقة. جاء كلينتون وراح كلينتون، جاء بوش، وراح بوش، وجاء أوباما وسيروح أوباما، وقد علقت بهم كل أوساخ النظام لفترات حكمهم، لكن أصحاب النظام الحقيقيين باقون، يلعنون مع الجمهور “وساخة” هذه الإدارات، وتبدأ ماكينة إعلامهم بالتبشير أنه ما علينا إلا أن ننتظر الإدارة التي ستأتي حتى تصبح كل الأمور على ما يرام! فالمشكلة في هؤلاء (الأوغاد) كما أسماهم البروفيسور غويغلي!. هذا ما يريد أصحاب النظام أن يوحوا به، مع أن المشكلة والأزمة هي أزمة نظام.
سيبين هذا الكتاب أن الرأسمالية منذ نشأتها قبل 500 سنة عاشت على الأكاذيب والحروب والعبودية واستعباد الشعوب، تديرها فئة قليلة جداً من بارونات المال العالميين. ولقد وظف هؤلاء في خدمتهم الإعلام على مدى القرون فملكوه وأداروه، سواء عندما كان يعتمد على الشائعات الكاذبة أو الصحف أو على الإذاعة والتلفزيون. كانت أضخم صفقة نفذها روتشايلد هو بمعرفة نتائج معركة واترلو قبل الآخرين، فادّعى أن انجلترا قد خسرت الحرب وباع بعض أسهمه، ما سبب انهيار البورصة.عندها قام بشراء كميات هائلة من الأسهم بأبخس الأسعار التي ارتفعت إلى سابق عهدها، بعدما تبين أن بريطانيا هي التي ربحت تلك المعركة. يقول روتشايلد مفتخراً: “لقد كانت هذه صفقة عمري”. كان الحمام الزاجل هو من أوصل خبر نتيجة معركة واترلو لورتشايلد. وما إن بدأت التقنية الحديثة بدءاً بالتلغراف حتى قام أصحاب النظام الرأسمالي بتأسيس المؤسسات الإخبارية ووكالات الأنباء وسائر وسائل التأثير الجماعي. كان من أوائل هؤلاء إسرائيل بير جوزيفات (Israel Beer Josephat) والذي اقتضت متطلبات المهنة أن يغير اسمه إلى رويتر، وديانته من اليهودية إلى الكاثوليكية، كما فعل الرئيس البريطاني دزرائيلي ذلك في عهده، وكما فعلت مدلين اولبرايت ووالدها جوزيف كوربل من بعده. وصاحبنا هو مؤسس وكالة رويتر للأنباء. ولقد اهتم هؤلاء بالاستيلاء على مصادر الأخبار ثم أدوات نشرها، فلقد تعلموا من تجاربهم أن ذاكرة الشعوب قصيرة المدى واعتمدوا مقولة اكذب اكذب يصدقك الناس. ولكي يعطوا أكاذيبهم طابع الصدق والعدل بل القداسة، وظفوا كهنة لنظامهم أسموهم “الاقتصاديين”، والذين كانوا وما زالوا يزاولون دور وعاظ السلاطين بإصدار الفتاوى من نوع “ادفع وارفع”.
وفي كل عصر وحقبة من الزمن نجد بأن بارونات المال هؤلاء قد “لمّعوا” أحد هؤلاء ليضفوا عليه هالة القداسة، وأنه إذا “قال فصدقوه”. عند انهيار النظام كما حصل أيام الكساد الكبير، كان هناك جون مينارد كينز John Maynard Keynes ، والذي نظّر بضرورة تدخل الدولة لتقليم أظافر السوق وكذلك بالإنفاق عن طريق العجوزات أثناء الأزمات إلى أن يتم إنقاذ النظام. وما فتئ النظام بعد ذلك إلاّ أن أخرج كبير كهنة جديداً، فجاء ملتون فريدمان يقول: إن تدخل الدولة هو أبو الشرور، فتم فكفكة ما تم وضعه من قوانين معتمدة على الأرذوكسية الكينزية خصوصاً في عهد ريغان، ثم جاء رئيس البنك المركزي بول فاولكر ومن بعده آلان غرينسبان، والذي حكم النظام المالي الأمريكي ومن ثم العالمي 16 سنة ونصف السنة ليقول لنا أمام لجنة تقصي حقائق عن أسباب الأزمة الاقتصادية في الكونغرس في أكتوبر سنة 2008: “إنني مصاب بالذهول... فأنا أعرف بأن هناك خطأ ما في النظام... لكني لا أعرف ما هو...”. لا فُضّ فوه!
لكن السؤال : لماذا علينا أن نصدق فولكر أو غرينسبان أو حتى بن شلومو برنانكي، الذي جاء وول ستريت به لينقذ مؤسساته المالية؟ فشلومو برنانكي كانت رسالة الدكتوراه خاصته عن الكساد الكبير... يا للصدفة جاء قبل أن يُعلن للملأ عن كساد كبير أو تباطؤ كبير... سمه ما شئت! أم هي صدفة إن جيء به هذه الأيام وهو الذي وصل إلى نتيجة في رسالة دكتوراه مؤداها أن أُم المشاكل هي السماح بانهيار البنوك، وعلى الدولة حمايتها بسائر الوسائل، وهكذا انقلبت الدولة الرأسمالية التي كانت تلعن تدخل الدولة وجعلته من المحرمات على دول شرق جنوب آسيا أثناء أزمة التسعينات، مُعلنة أن على البنوك الضعيفة والشركات الضعيفة أن تنهار، حيث ما لبث أن ذهب بارونات المال العالميون لشرائها بأبخس الأثمان. لكن اليوم، أصبحت تلك المحرمات حلالاً، وبدأت الحكومة بشراء الحصص وضخ المليارات لوقف الانهيارات لمؤسسات باروناتها! ورسالة دكتوراه برنانكي كانت من أشهر الجامعات الأمريكيةMIT ، وكان المشرف عليها الأستاذ في تلك الجامعة آنذاك البروفيسور ستانلي فيشرStanley Fisher ، والذي انتقل ليصبح نائب مدير صندوق النقد الدولي وهو اليوم رئيس البنك المركزي ل”إسرائيل”!
إذا كان الأمر بهذا الوضوح فهل علينا أن نبقى كتنابل السلطان نسير من أزمة إلى أزمة... إلى حتفنا... أم أن علينا إصلاح ذات بيننا وتفحص ما يجري حولنا؟
هل أتاك حديث مادوف وبلاغوجيفيتش؟
برنارد مادوف هو ابن وول ستريت البار. أسس سنة 1960 شركة برنارد مادوف للاستثمار عندما كان في الثانية والعشرين من عمره وكان رأسماله حينئذٍ 5000 دولار. بقي مادوف رئيس مجلس إدارة هذه الشركة حتى 11 ديسمبر 2008 حينما ذهب وأخبر أولي الأمر أن شركته كانت تمارس الخداع والغش والكذب خلال سنوات عملها، وكان قد أخبر بعض مديريه الشيء نفسه قبل يوم من افصاحه عن سوء أمره قائلاً : “كان الأمر كله كذبة كبرى”. وصل مادوف إلى أعلى المراكز في وول ستريت بما في ذلك رئاسة مجلس إدارة ناسداك Nasdaq أهم سوق مالي لشركات التكنولوجيا في العالم لعدة سنوات. كان لآخر أيامه ممن يسمون في وول ستريت “صناع السوق”. (خسائر) مادوف كانت 50 مليار دولار أي 000.000.000.50 دولار عداً ونقداً !!!... وما كادت الفضيحة أن تنكشف حتى أفصحت العديد من البنوك العالمية داخل الولايات المتحدة وخارجها في بريطانيا، وإسبانيا، وفرنسا، وايطاليا وهولندا وغيرها انها قد أصابتها خسائر جسيمة لأنها كانت تستثمر مع مادوف. كان مادوف، حسب صحافة وإعلام وول ستريت رجلاً تقياً نقياً طاهراً ورعاً، حيث أنه كان يكثر أعمال الخير خصوصاً للمؤسسات اليهودية و”اسرائيل”.... بل وكان في مجلس امناء إحدى الجامعات اليهودية.
حسب ما نقلته وكالة الصحافة الفرنسية AFP في 18/12/2008 فلقد ظهر على الإنترنت طوفان من الرسائل “المعادية للسامية” (وهنا نضع معادية السامية بين قوسين). قالت وكالة الأنباء هذه بأن “مادوف، ذا السبعين عاماً، يهودي الديانة، وعضو بارز في الجالية اليهودية الأمريكية ذات النفوذ القوي”. ثم تقتبس الوكالة ما قالته “رابطة الدفاع ضد التمييز” اليهودية ADF عن هذا الموضوع : “قام البعض بكتابة تعليقات بالغة الإهانة عن علاقة اليهود والمال حتى أن بعضهم قال إنه لا يستطيع أحد القيام بعملية غش كهذه إلاّ اليهود كما أن آخرين ادعوا (في نظريات مؤامرة) بأن سرقات اليهود هذه انما هي لمساعدة “إسرائيل””. واستطرد الناطق باسم رابطة ADL أنه حتى بعض الجرائد، وليس مواقع الإنترنت فقط، كانت من اولئك الذين انضموا إلى تلك الحملة ومنهم نيويورك بوست، ومجلة “فوربس”. لكن الغريب أن مواقع جريدة “هآرتس” و”الجيروسالم بوست” كانا ضمن تلك المواقع التي ورد فيها مثل هذه الاتهامات “اللاسامية”. إذن مهاجمة الغش والخداع والسرقة هي (لا سامية) و(نظرية مؤامرة) حتى ولو كان على موقع جريدة “إسرائيلية”! أليس هذا هو الابتزاز بعينه؟؟
بينا في هذا الكتاب أن ممارسات أسواق المال منذ كانت هناك أسواق مال هي نفسها، جديدها قديم، وقديمها جديد. بينّا أن الفقاعات الاقتصادية كانت تُمارس حتى قبل 300 سنة، حيث بينا فقاعة شركة بحر الجنوب سنة 1720 والتي يُظّن أنها قد حدثت بالأمس. حتى أن ممارسات مادوف ما هي إلا نسخة طبق الأصل عن ممارسات تشارلز بونزي Charles Ponzi في العشرينات من القرن الماضي.
بدأ بونزي فقيراً معدماً كما كان الحال مع مادوف، إلى أن عمل مع أحد أصحاب البنوك “الفاسدين” في كندا حيث تَعلّم منه آخر علوم النصب، والنصب هو أحد علوم مهنة أسواق المال وأصحابها التي ورثوها أباً عن جد على مدى التاريخ. ما تعلمه هو ما يسمى Pyramid Scams وملخصها الدفع للمستثمرين القدامى من أموال المستثمرين الجدد بناء على مشاريع وهمية. ووَعَد بونزي بدفع فائدة 50% على أي مبلغ استثمار لمدة 90 يوماً فقط. خلال سبعة شهور جمع 30000 مستثمر دفعوا 9 ملايين دولار وهو مبلغ ضخم في تلك الأيام. ذاع صيته في كل مكان. وبعد أن بدأ عملية احتياله وبجيبه دولاران فقط، امتلك قصراً وسيارات فارهة إلى أن تم اكتشاف أمره بعد أن كان ما كان! وهذا ما قام به مادوف... بل هذا ما تقوم به شركات المال وباروناتها العالميون.
إذا كانت أخلاقيات نظام السوق الرأسمالي تسمح ببيع السلع والسياسيين واقتراف الجريمة باعتبارها عمليات سوق لا تخضع لمعايير أخلاقيه، فدعنا نرَ كيف ينطبق ذلك على بيئة شيكاغو وحزبها الديمقراطي الذي أوصلت ماكنته السياسية باراك اوباما إلى أعلى مناصب الدولة.
يقول ديك سمبسون Dick Simpson أستاذ العلوم السياسية بجامعة إلينوي في شيكاغو إن أكثر من ألف شخص قد تم ادانتهم على خلفية جرائم سياسية اقترفت منذ السبعينات من القرن الماضي كان منهم ثلاثون ممن وصلوا إلى مراكزهم عبر صناديق الاقتراع إلى مناصب عامة ومهمة. كان آخر هؤلاء حاكم ولاية إلينوي الحالي (بلاغوجيفيتش Blagojevitch) والذي تم اعتقاله واطلاق سراحه بكفالة في 9/12/2008. وهذا ما نقلته وكالة الأسوشيتيد برس في 24/12/2008: “أوقف بلاغوجيفيتش في التاسع من كانون الأول وأفرج عنه بكفالة. وكشفت نصوص الاتصالات الهاتفية التي نشرها مكتب التحقيقات الفدرالي (اف بي آي) أنه حاول بيع مقعد سناتور إيلينوي الذي بقي شاغراً بعد انتخاب أوباما رئيساً للولايات المتحدة. وكشف التنصت على مكالمات حاكم إيلينوي أنه كان غاضباً لأن فريق أوباما لم يقدم له سوى التقدير مقابل تعيين هذه الشخصية أو تلك... ويعود إلى حكام الولايات المتحدة تعيين أعضاء مجلس الشيوخ الذين تصبح مقاعدهم شاغرة، بانتظار الانتخابات المقبلة لمجلس الشيوخ بعد سنتين.
ويُمكن أن يحكم بالسجن على بلاغوجيفيتش المتهم بالاحتيال والفساد والذي يخضع لتحقيق حول قضية أخرى مما يفسر تمكن مكتب التحقيقات الفدرالي من التنصت على اتصالاته بإذن من القضاء”.
إذن، منصب أوباما السابق والذي وصل إليه أوباما عبر ماكينة الحزب الديمقراطي السياسية والتي أوصلت أوباما إلى البيت الأبيض هو الآن معروض للبيع... عدّاً ونقداً، كما بينته تسجيلات مكتب التحقيقات الفدرالي، ولكن أليست هذه حالة فريدة أردنا أن نعمل بها “من الحبة قبّة”؟ يقول البروفيسور سيمبسون إنه حين إدانة الحاكم الحالي ودخوله السجن سيكون أربعة من أصل آخر ثمانية حكام لهذه الولاية قد دخلوا السجن على خلفية الفساد والاختلاس والابتزاز... أربعة من ثمانية تعني 50% - أي النصف. لكن لماذا علينا نحن “أصحاب نظريات المؤامرة” أن ننظر إلى نصف الكوب الفارغ، فهناك نصف ملآن؟ ثم تفاءلوا بالخير تجدوه عند أوباما... وإلاّ فالذي بعده أو الذي بعد الذي بعده ! أوليس من الأفضل أن نحمد الله كثيراً أن بلاغوجيفيتش لم يكن هو الذي وصل إلى الرئاسة الأمريكية؟ لكن هل كان ذلك ممكنا؟
نطالب بالرأفة ل بلاغوجيفيتش، فهو قد لعب ضمن قواعد اللعبة في الرأسمالية الأمريكية كما وصفها الأستاذ ليستر ثورو وكما وصفتها ال “نيوزويك”، لكنه لسوء حظه قد انكشف أمره.
المحزن أن خسائر الدول العربية وخصوصاً الصناديق السيادية لدول النفط العربية قدرت بحوالي 2600 مليار دولار من جامعة الدول العربية، وهو مبلغ يزيد مرة ونصف المرة على جميع موجودات البنوك العربية مجتمعة من المحيط إلى الخليج، بل ويزيد على مجموع الدخل القومي السنوي للدول العربية مجتمعة من المحيط إلى الخليج، بما في ذلك الموارد من النفط والغاز. أما ما قدرته الأمم المتحدة من الخسائر العربية حتى منتصف ديسمبر / كانون الأول 2008 فكان 650 مليار دولار، خمسة في المائة من هذه الخسائر لو تم استثمارها في الزراعة في بلد كالسودان، لأصبح سلة غذاء للعالم العربي بأجمعه، أو 10% من هذه الخسارة كان يمكن أن يقيم قاعدة صناعية حقيقية في هذا البلد العربي أو ذاك. بل كان يمكن بأقل من عشرين في المائة من هذه الخسائر أن تقوم بسداد كافة الديون عن الدول العربية. هذه الخسائر في وقت تعاني شعوب منطقتنا من الجهالة والفقر وفي وقت سيدخل فيه سوق العمالة العربي 80 مليون طالب عمل جديد خلال السنوات العشر المقبلة.
أخو نابليون كتب إلى أخيه ناصحاً: حذار إذا جاعت الجماهير ! سؤالنا : لماذا على دول النفط أن تنتج من النفط أكثر من احتياجاتها للتنمية فتحول هذه المادة الثمينة من كنز ترتفع أسعاره مع الأيام باقياً آمناً تحت أراضيها، إلى أوراق كسندات خزانة في أمريكا أو كاستثمارات عند مادوف ومن على شاكلته؟ ولماذا لا تستثمر هذه الفوائض في بلدانها و/ أو بلدان أشقائها لتصبح ثروة حقيقية منتجة لا أوراق تتآكل لألف سبب وسبب؟ أم أن سؤالنا قد أخطأ العنوان؟ فالجواب في مكان آخر... هناك...!.
ما قاله مادوف عن شركته “كان الأمر كله كذبة كبرى” يمكننا قوله عن النظام كله.
الإصلاح في عالمنا العربي
ليست المشكلة بالآخرين وحدهم، فنحن ما بين فئة قليلة تطابقت مصالحها مع من هم خارج أوطانها أو ممن شغفهم الغرب حباً، وهؤلاء قال عنهم ابن خلدون قبل بضع مئات من السنين بأن “عبودية العقل هي أقسى أنواع العبوديات”، وبين فئة جمدت حضارتنا العظيمة في ثلاجة الزمن البعيد، دون الأخذ بأدوات التحديث والعصر في حضارة حثت على الأخذ بالعلم حتى ولو في الصين.
هل هناك شرق أوسط جديد؟ الجواب نعم، هناك طفل قد يكون اسمه الشرق الأوسط الجديد وقد لا يكون ! وهو - كما قالت عنه كوندوليزا رايس - في مخاض آلام الولادة. هو لن يكون بمواصفات رايس أو شمعون بيريز. لا أدري مَنْ غيرُ الله يدري كيف سيكون هذا الوليد لأنه من أطفال الأنابيب، وهو قادم من رحم قانون “العواقب غير المحسوبة The Law of Unanticipated consequences لا من واشنطن ولا من أحبائها.
ليس للأباطرة أصدقاء ولا صداقات. مات ماركوس في منفاه، وضاقت الأرض بما رحبت لقبرٍ يوارى به جثمان شاه إيران. جندت الولايات المتحدة ألوف المتطوعين البسطاء ليجاهدوا معها ضد الكفار السوفييت في أفغانستان. وبعد أن قضي الأمر، أين أصبح هؤلاء؟ منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر في غوانتانامو! ثم أين هو سوهارتو؟ وأما مانويل نورييغا فلقد بدأ حياته مخبراً ثم عميلاً من الدرجة الممتازة لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية، حيث أوصلته إلى حكم جمهورية بنما. أما اليوم فهو السجين رقم 41586 في أحد سجون ميامي الفيدرالية بولاية فلوريدا”.
الرأسمالية عاشت على الأكاذيب والحروب منذ نشأتها قبل 500 عام
تأليف: د. عبدالحي زلوم
1/1
في كتابه “نذر العولمة” الذي صدر سنة 1998 بيّن د. عبدالحي زلوم أن النظام الرأسمالي قد ركب ثورة المعلومات فأوجد نظاماً اقتصادياً مالياً موازياً للاقتصاد المنتج، وأصبح عبئاً عليه يعيش على المضاربة فحوّل أسواق المال إلى كازينوهات للمقامرة تصب في جيوب بارونات المال العالميين.
وفي كتابه “امبراطورية الشر الجديدة” أوضح د. عبدالحي زلوم أن عقد التسعينات كان كعقد العشرينات وأن الأسباب نفسها تعطي النتائج نفسها. فكما كانت نتيجة ممارسات العشرينات كساداً كبيراً دام أكثر من عشر سنين، بيّن د. زلوم أن العقد الأول من القرن الواحد والعشرين سيشهد انهياراً اقتصادياً، بحيث كان الفصل الأخير من كتاب
“حروب البترول الصليبية” لسنة 2005 معنوناً : الإمبراطورية الأمريكية: نهايتها سكتة قلبية اقتصادية.
هذا الكتاب “أزمة نظام” يبين أن النظام الرأسمالي قديمه جديد وجديده قديم، يعيش على الحروب واستلاب ثروات الآخرين، وأن “تاريخ صلاحيته” قد قاربت نهايتها.
د. عبدالحي زلوم : أنهى دراسته الابتدائية والثانوية في القدس، والجامعية الأولى والعليا في الهندسة والإدارة والإدارة العليا في جامعات الولايات المتحدة بما فيها جامعة هارفارد. ولقد تعايش وخبر النظام الأمريكي لأكثر من نصف قرن، كما عمل مع العديد من الشركات العبرقطرية في الولايات المتحدة وأوروبا، كما عمل مستشاراً عالمياً في قطاع النفط وله ستة مؤلفات في الاقتصاد السياسي.
في كتابنا “نذر العولمة” بيّنا أن الرأسمالية المعلومالية قد مزجت بين قوة المال وقوة الإعلام وقوة علوم التسويق للبضائع والسياسيين، وهذه العناصر أسميناها في كتابنا إياه بالإنجليزية The Three Ms لأنها جميعاً تبدأ بالحرف M Money) ، Media،(Marketing .
وحيث تم تغيير مفهوم المال حتى أصبح بدوره سلعة من السلع، صار وهماً ونبضة في كمبيوترات البنوك والشركات المالية، وصار غسل دماغ الجماهير الدعامة الأساسية لهذا الثالوث، وذلك النظام، فأصبح دور الإعلام طاغياً، مما جعل أصحاب البيوتات والمؤسسات المالية وأصحابها يهرعون لاحتكار أجهزة الإعلام المختلفة ليتقلص عدد شركاتها الكبرى من 30 إلى 5 خلال آخر عقدين، تربع على رأس هذه الشركات الخمس أصحاب البنوك أنفسهم. وحين كتابة هذه السطور كان رؤساء هذه الشركات الخمس من ملة واحدة!
عندما زار وفد صحافي من الاتحاد السوفييتي الولايات المتحدة في الثمانينات من القرن الماضي، وقبل مغادرتهم، سأل أحدهم ضيوفه الأمريكان : “كيف تستطيع ماكينة الإعلام الأمريكية أن تتحكم لهذه الدرجة، حيث إننا وجدنا الرسالة نفسها، والنص نفسه في سائر أنحاء الولايات المتحدة ومن مؤسسات الإعلام كافة، وبطريقة لم نستطع نحن في الاتحاد السوفييتي تحقيقها رغم تمركز آلة الإعلام بأيدي حزبنا”.
نقتبس في هذا الكتاب قول البروفيسور كويغلي Quigly من جامعة جورج تاون، والذي علّم طلابه (ومنهم بيل كلينتون) أن برامج الحزبين الأمريكيين في جوهرهما برنامج واحد في خطوطه العريضة، وأن الإدارات التي تأتي للسلطة تأتي لتنفيذ تلك المخططات مع حرية حركة تكتيكية محدودة. وتتحمل الإدارات الأمريكية كل “أوساخ” تلك البرامج باعتبارهم المسؤولين عنها، وذلك بمنأى عن أصحاب النظام الحقيقيين الذين جيّروا تلك البرامج لمصالحهم الضيقة. جاء كلينتون وراح كلينتون، جاء بوش، وراح بوش، وجاء أوباما وسيروح أوباما، وقد علقت بهم كل أوساخ النظام لفترات حكمهم، لكن أصحاب النظام الحقيقيين باقون، يلعنون مع الجمهور “وساخة” هذه الإدارات، وتبدأ ماكينة إعلامهم بالتبشير أنه ما علينا إلا أن ننتظر الإدارة التي ستأتي حتى تصبح كل الأمور على ما يرام! فالمشكلة في هؤلاء (الأوغاد) كما أسماهم البروفيسور غويغلي!. هذا ما يريد أصحاب النظام أن يوحوا به، مع أن المشكلة والأزمة هي أزمة نظام.
سيبين هذا الكتاب أن الرأسمالية منذ نشأتها قبل 500 سنة عاشت على الأكاذيب والحروب والعبودية واستعباد الشعوب، تديرها فئة قليلة جداً من بارونات المال العالميين. ولقد وظف هؤلاء في خدمتهم الإعلام على مدى القرون فملكوه وأداروه، سواء عندما كان يعتمد على الشائعات الكاذبة أو الصحف أو على الإذاعة والتلفزيون. كانت أضخم صفقة نفذها روتشايلد هو بمعرفة نتائج معركة واترلو قبل الآخرين، فادّعى أن انجلترا قد خسرت الحرب وباع بعض أسهمه، ما سبب انهيار البورصة.عندها قام بشراء كميات هائلة من الأسهم بأبخس الأسعار التي ارتفعت إلى سابق عهدها، بعدما تبين أن بريطانيا هي التي ربحت تلك المعركة. يقول روتشايلد مفتخراً: “لقد كانت هذه صفقة عمري”. كان الحمام الزاجل هو من أوصل خبر نتيجة معركة واترلو لورتشايلد. وما إن بدأت التقنية الحديثة بدءاً بالتلغراف حتى قام أصحاب النظام الرأسمالي بتأسيس المؤسسات الإخبارية ووكالات الأنباء وسائر وسائل التأثير الجماعي. كان من أوائل هؤلاء إسرائيل بير جوزيفات (Israel Beer Josephat) والذي اقتضت متطلبات المهنة أن يغير اسمه إلى رويتر، وديانته من اليهودية إلى الكاثوليكية، كما فعل الرئيس البريطاني دزرائيلي ذلك في عهده، وكما فعلت مدلين اولبرايت ووالدها جوزيف كوربل من بعده. وصاحبنا هو مؤسس وكالة رويتر للأنباء. ولقد اهتم هؤلاء بالاستيلاء على مصادر الأخبار ثم أدوات نشرها، فلقد تعلموا من تجاربهم أن ذاكرة الشعوب قصيرة المدى واعتمدوا مقولة اكذب اكذب يصدقك الناس. ولكي يعطوا أكاذيبهم طابع الصدق والعدل بل القداسة، وظفوا كهنة لنظامهم أسموهم “الاقتصاديين”، والذين كانوا وما زالوا يزاولون دور وعاظ السلاطين بإصدار الفتاوى من نوع “ادفع وارفع”.
وفي كل عصر وحقبة من الزمن نجد بأن بارونات المال هؤلاء قد “لمّعوا” أحد هؤلاء ليضفوا عليه هالة القداسة، وأنه إذا “قال فصدقوه”. عند انهيار النظام كما حصل أيام الكساد الكبير، كان هناك جون مينارد كينز John Maynard Keynes ، والذي نظّر بضرورة تدخل الدولة لتقليم أظافر السوق وكذلك بالإنفاق عن طريق العجوزات أثناء الأزمات إلى أن يتم إنقاذ النظام. وما فتئ النظام بعد ذلك إلاّ أن أخرج كبير كهنة جديداً، فجاء ملتون فريدمان يقول: إن تدخل الدولة هو أبو الشرور، فتم فكفكة ما تم وضعه من قوانين معتمدة على الأرذوكسية الكينزية خصوصاً في عهد ريغان، ثم جاء رئيس البنك المركزي بول فاولكر ومن بعده آلان غرينسبان، والذي حكم النظام المالي الأمريكي ومن ثم العالمي 16 سنة ونصف السنة ليقول لنا أمام لجنة تقصي حقائق عن أسباب الأزمة الاقتصادية في الكونغرس في أكتوبر سنة 2008: “إنني مصاب بالذهول... فأنا أعرف بأن هناك خطأ ما في النظام... لكني لا أعرف ما هو...”. لا فُضّ فوه!
لكن السؤال : لماذا علينا أن نصدق فولكر أو غرينسبان أو حتى بن شلومو برنانكي، الذي جاء وول ستريت به لينقذ مؤسساته المالية؟ فشلومو برنانكي كانت رسالة الدكتوراه خاصته عن الكساد الكبير... يا للصدفة جاء قبل أن يُعلن للملأ عن كساد كبير أو تباطؤ كبير... سمه ما شئت! أم هي صدفة إن جيء به هذه الأيام وهو الذي وصل إلى نتيجة في رسالة دكتوراه مؤداها أن أُم المشاكل هي السماح بانهيار البنوك، وعلى الدولة حمايتها بسائر الوسائل، وهكذا انقلبت الدولة الرأسمالية التي كانت تلعن تدخل الدولة وجعلته من المحرمات على دول شرق جنوب آسيا أثناء أزمة التسعينات، مُعلنة أن على البنوك الضعيفة والشركات الضعيفة أن تنهار، حيث ما لبث أن ذهب بارونات المال العالميون لشرائها بأبخس الأثمان. لكن اليوم، أصبحت تلك المحرمات حلالاً، وبدأت الحكومة بشراء الحصص وضخ المليارات لوقف الانهيارات لمؤسسات باروناتها! ورسالة دكتوراه برنانكي كانت من أشهر الجامعات الأمريكيةMIT ، وكان المشرف عليها الأستاذ في تلك الجامعة آنذاك البروفيسور ستانلي فيشرStanley Fisher ، والذي انتقل ليصبح نائب مدير صندوق النقد الدولي وهو اليوم رئيس البنك المركزي ل”إسرائيل”!
إذا كان الأمر بهذا الوضوح فهل علينا أن نبقى كتنابل السلطان نسير من أزمة إلى أزمة... إلى حتفنا... أم أن علينا إصلاح ذات بيننا وتفحص ما يجري حولنا؟
هل أتاك حديث مادوف وبلاغوجيفيتش؟
برنارد مادوف هو ابن وول ستريت البار. أسس سنة 1960 شركة برنارد مادوف للاستثمار عندما كان في الثانية والعشرين من عمره وكان رأسماله حينئذٍ 5000 دولار. بقي مادوف رئيس مجلس إدارة هذه الشركة حتى 11 ديسمبر 2008 حينما ذهب وأخبر أولي الأمر أن شركته كانت تمارس الخداع والغش والكذب خلال سنوات عملها، وكان قد أخبر بعض مديريه الشيء نفسه قبل يوم من افصاحه عن سوء أمره قائلاً : “كان الأمر كله كذبة كبرى”. وصل مادوف إلى أعلى المراكز في وول ستريت بما في ذلك رئاسة مجلس إدارة ناسداك Nasdaq أهم سوق مالي لشركات التكنولوجيا في العالم لعدة سنوات. كان لآخر أيامه ممن يسمون في وول ستريت “صناع السوق”. (خسائر) مادوف كانت 50 مليار دولار أي 000.000.000.50 دولار عداً ونقداً !!!... وما كادت الفضيحة أن تنكشف حتى أفصحت العديد من البنوك العالمية داخل الولايات المتحدة وخارجها في بريطانيا، وإسبانيا، وفرنسا، وايطاليا وهولندا وغيرها انها قد أصابتها خسائر جسيمة لأنها كانت تستثمر مع مادوف. كان مادوف، حسب صحافة وإعلام وول ستريت رجلاً تقياً نقياً طاهراً ورعاً، حيث أنه كان يكثر أعمال الخير خصوصاً للمؤسسات اليهودية و”اسرائيل”.... بل وكان في مجلس امناء إحدى الجامعات اليهودية.
حسب ما نقلته وكالة الصحافة الفرنسية AFP في 18/12/2008 فلقد ظهر على الإنترنت طوفان من الرسائل “المعادية للسامية” (وهنا نضع معادية السامية بين قوسين). قالت وكالة الأنباء هذه بأن “مادوف، ذا السبعين عاماً، يهودي الديانة، وعضو بارز في الجالية اليهودية الأمريكية ذات النفوذ القوي”. ثم تقتبس الوكالة ما قالته “رابطة الدفاع ضد التمييز” اليهودية ADF عن هذا الموضوع : “قام البعض بكتابة تعليقات بالغة الإهانة عن علاقة اليهود والمال حتى أن بعضهم قال إنه لا يستطيع أحد القيام بعملية غش كهذه إلاّ اليهود كما أن آخرين ادعوا (في نظريات مؤامرة) بأن سرقات اليهود هذه انما هي لمساعدة “إسرائيل””. واستطرد الناطق باسم رابطة ADL أنه حتى بعض الجرائد، وليس مواقع الإنترنت فقط، كانت من اولئك الذين انضموا إلى تلك الحملة ومنهم نيويورك بوست، ومجلة “فوربس”. لكن الغريب أن مواقع جريدة “هآرتس” و”الجيروسالم بوست” كانا ضمن تلك المواقع التي ورد فيها مثل هذه الاتهامات “اللاسامية”. إذن مهاجمة الغش والخداع والسرقة هي (لا سامية) و(نظرية مؤامرة) حتى ولو كان على موقع جريدة “إسرائيلية”! أليس هذا هو الابتزاز بعينه؟؟
بينا في هذا الكتاب أن ممارسات أسواق المال منذ كانت هناك أسواق مال هي نفسها، جديدها قديم، وقديمها جديد. بينّا أن الفقاعات الاقتصادية كانت تُمارس حتى قبل 300 سنة، حيث بينا فقاعة شركة بحر الجنوب سنة 1720 والتي يُظّن أنها قد حدثت بالأمس. حتى أن ممارسات مادوف ما هي إلا نسخة طبق الأصل عن ممارسات تشارلز بونزي Charles Ponzi في العشرينات من القرن الماضي.
بدأ بونزي فقيراً معدماً كما كان الحال مع مادوف، إلى أن عمل مع أحد أصحاب البنوك “الفاسدين” في كندا حيث تَعلّم منه آخر علوم النصب، والنصب هو أحد علوم مهنة أسواق المال وأصحابها التي ورثوها أباً عن جد على مدى التاريخ. ما تعلمه هو ما يسمى Pyramid Scams وملخصها الدفع للمستثمرين القدامى من أموال المستثمرين الجدد بناء على مشاريع وهمية. ووَعَد بونزي بدفع فائدة 50% على أي مبلغ استثمار لمدة 90 يوماً فقط. خلال سبعة شهور جمع 30000 مستثمر دفعوا 9 ملايين دولار وهو مبلغ ضخم في تلك الأيام. ذاع صيته في كل مكان. وبعد أن بدأ عملية احتياله وبجيبه دولاران فقط، امتلك قصراً وسيارات فارهة إلى أن تم اكتشاف أمره بعد أن كان ما كان! وهذا ما قام به مادوف... بل هذا ما تقوم به شركات المال وباروناتها العالميون.
إذا كانت أخلاقيات نظام السوق الرأسمالي تسمح ببيع السلع والسياسيين واقتراف الجريمة باعتبارها عمليات سوق لا تخضع لمعايير أخلاقيه، فدعنا نرَ كيف ينطبق ذلك على بيئة شيكاغو وحزبها الديمقراطي الذي أوصلت ماكنته السياسية باراك اوباما إلى أعلى مناصب الدولة.
يقول ديك سمبسون Dick Simpson أستاذ العلوم السياسية بجامعة إلينوي في شيكاغو إن أكثر من ألف شخص قد تم ادانتهم على خلفية جرائم سياسية اقترفت منذ السبعينات من القرن الماضي كان منهم ثلاثون ممن وصلوا إلى مراكزهم عبر صناديق الاقتراع إلى مناصب عامة ومهمة. كان آخر هؤلاء حاكم ولاية إلينوي الحالي (بلاغوجيفيتش Blagojevitch) والذي تم اعتقاله واطلاق سراحه بكفالة في 9/12/2008. وهذا ما نقلته وكالة الأسوشيتيد برس في 24/12/2008: “أوقف بلاغوجيفيتش في التاسع من كانون الأول وأفرج عنه بكفالة. وكشفت نصوص الاتصالات الهاتفية التي نشرها مكتب التحقيقات الفدرالي (اف بي آي) أنه حاول بيع مقعد سناتور إيلينوي الذي بقي شاغراً بعد انتخاب أوباما رئيساً للولايات المتحدة. وكشف التنصت على مكالمات حاكم إيلينوي أنه كان غاضباً لأن فريق أوباما لم يقدم له سوى التقدير مقابل تعيين هذه الشخصية أو تلك... ويعود إلى حكام الولايات المتحدة تعيين أعضاء مجلس الشيوخ الذين تصبح مقاعدهم شاغرة، بانتظار الانتخابات المقبلة لمجلس الشيوخ بعد سنتين.
ويُمكن أن يحكم بالسجن على بلاغوجيفيتش المتهم بالاحتيال والفساد والذي يخضع لتحقيق حول قضية أخرى مما يفسر تمكن مكتب التحقيقات الفدرالي من التنصت على اتصالاته بإذن من القضاء”.
إذن، منصب أوباما السابق والذي وصل إليه أوباما عبر ماكينة الحزب الديمقراطي السياسية والتي أوصلت أوباما إلى البيت الأبيض هو الآن معروض للبيع... عدّاً ونقداً، كما بينته تسجيلات مكتب التحقيقات الفدرالي، ولكن أليست هذه حالة فريدة أردنا أن نعمل بها “من الحبة قبّة”؟ يقول البروفيسور سيمبسون إنه حين إدانة الحاكم الحالي ودخوله السجن سيكون أربعة من أصل آخر ثمانية حكام لهذه الولاية قد دخلوا السجن على خلفية الفساد والاختلاس والابتزاز... أربعة من ثمانية تعني 50% - أي النصف. لكن لماذا علينا نحن “أصحاب نظريات المؤامرة” أن ننظر إلى نصف الكوب الفارغ، فهناك نصف ملآن؟ ثم تفاءلوا بالخير تجدوه عند أوباما... وإلاّ فالذي بعده أو الذي بعد الذي بعده ! أوليس من الأفضل أن نحمد الله كثيراً أن بلاغوجيفيتش لم يكن هو الذي وصل إلى الرئاسة الأمريكية؟ لكن هل كان ذلك ممكنا؟
نطالب بالرأفة ل بلاغوجيفيتش، فهو قد لعب ضمن قواعد اللعبة في الرأسمالية الأمريكية كما وصفها الأستاذ ليستر ثورو وكما وصفتها ال “نيوزويك”، لكنه لسوء حظه قد انكشف أمره.
المحزن أن خسائر الدول العربية وخصوصاً الصناديق السيادية لدول النفط العربية قدرت بحوالي 2600 مليار دولار من جامعة الدول العربية، وهو مبلغ يزيد مرة ونصف المرة على جميع موجودات البنوك العربية مجتمعة من المحيط إلى الخليج، بل ويزيد على مجموع الدخل القومي السنوي للدول العربية مجتمعة من المحيط إلى الخليج، بما في ذلك الموارد من النفط والغاز. أما ما قدرته الأمم المتحدة من الخسائر العربية حتى منتصف ديسمبر / كانون الأول 2008 فكان 650 مليار دولار، خمسة في المائة من هذه الخسائر لو تم استثمارها في الزراعة في بلد كالسودان، لأصبح سلة غذاء للعالم العربي بأجمعه، أو 10% من هذه الخسارة كان يمكن أن يقيم قاعدة صناعية حقيقية في هذا البلد العربي أو ذاك. بل كان يمكن بأقل من عشرين في المائة من هذه الخسائر أن تقوم بسداد كافة الديون عن الدول العربية. هذه الخسائر في وقت تعاني شعوب منطقتنا من الجهالة والفقر وفي وقت سيدخل فيه سوق العمالة العربي 80 مليون طالب عمل جديد خلال السنوات العشر المقبلة.
أخو نابليون كتب إلى أخيه ناصحاً: حذار إذا جاعت الجماهير ! سؤالنا : لماذا على دول النفط أن تنتج من النفط أكثر من احتياجاتها للتنمية فتحول هذه المادة الثمينة من كنز ترتفع أسعاره مع الأيام باقياً آمناً تحت أراضيها، إلى أوراق كسندات خزانة في أمريكا أو كاستثمارات عند مادوف ومن على شاكلته؟ ولماذا لا تستثمر هذه الفوائض في بلدانها و/ أو بلدان أشقائها لتصبح ثروة حقيقية منتجة لا أوراق تتآكل لألف سبب وسبب؟ أم أن سؤالنا قد أخطأ العنوان؟ فالجواب في مكان آخر... هناك...!.
ما قاله مادوف عن شركته “كان الأمر كله كذبة كبرى” يمكننا قوله عن النظام كله.
الإصلاح في عالمنا العربي
ليست المشكلة بالآخرين وحدهم، فنحن ما بين فئة قليلة تطابقت مصالحها مع من هم خارج أوطانها أو ممن شغفهم الغرب حباً، وهؤلاء قال عنهم ابن خلدون قبل بضع مئات من السنين بأن “عبودية العقل هي أقسى أنواع العبوديات”، وبين فئة جمدت حضارتنا العظيمة في ثلاجة الزمن البعيد، دون الأخذ بأدوات التحديث والعصر في حضارة حثت على الأخذ بالعلم حتى ولو في الصين.
هل هناك شرق أوسط جديد؟ الجواب نعم، هناك طفل قد يكون اسمه الشرق الأوسط الجديد وقد لا يكون ! وهو - كما قالت عنه كوندوليزا رايس - في مخاض آلام الولادة. هو لن يكون بمواصفات رايس أو شمعون بيريز. لا أدري مَنْ غيرُ الله يدري كيف سيكون هذا الوليد لأنه من أطفال الأنابيب، وهو قادم من رحم قانون “العواقب غير المحسوبة The Law of Unanticipated consequences لا من واشنطن ولا من أحبائها.
ليس للأباطرة أصدقاء ولا صداقات. مات ماركوس في منفاه، وضاقت الأرض بما رحبت لقبرٍ يوارى به جثمان شاه إيران. جندت الولايات المتحدة ألوف المتطوعين البسطاء ليجاهدوا معها ضد الكفار السوفييت في أفغانستان. وبعد أن قضي الأمر، أين أصبح هؤلاء؟ منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر في غوانتانامو! ثم أين هو سوهارتو؟ وأما مانويل نورييغا فلقد بدأ حياته مخبراً ثم عميلاً من الدرجة الممتازة لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية، حيث أوصلته إلى حكم جمهورية بنما. أما اليوم فهو السجين رقم 41586 في أحد سجون ميامي الفيدرالية بولاية فلوريدا”.
تعليق