العربية ومعول الترجمة في منظومة العولمة
إن الترجمة وفق ما خبرته من دراسة وبحث وممارسة طوال ما يزيد على العقدين هي أكثر الأسلحة فاعلية بيد قوى العولمة، وكثيرا ما تستحيل الترجمة إلى حق يراد به باطل، فيدس البعض بين رحالها ما يوقعها في مغبة الاتهام، ويسمم أفكارها بمضامين وصيغ تخلق حالة من التشويش والخلط، فالترجمة ساحة واسعة تستعر على أرضها حرب ضروس هي حرب المفاهيم والمصطلحات بما تحويه من صيغ لغوية ومضامين ثقافية. لقد ظلت الترجمة حتى عهد قريب ترزخ تحت نير نظرة ضيقة يغلب عليها التعامل الهامشي مع الترجمة بوصفها نشاطا إبداعيا مكملا أو هامشيا، وذلك ليس مرجعه قلة أهميتها أو انعدام تأثيرها، وإنما سببه الخوف من التطرق لقضاياها التي تتقاطع مع حقول معرفية متعددة وفق ممارسات التواصل الإنساني.
لا يمكننا فصل عولمة الثقافة عن عولمة اللغة، ولا يمكن أن نتجاهل دور الترجمة كأداة تواصلية لها من الدور ما يتخطى نقل المكونات الثقافية بل إن الترجمة أداة من أدوات تمكين اللغات وبسط سيطرتها. كان العالم الكندي "مارشال ماك لوهان"- من جامعة تورنتو- أول من أشار إلى مصطلح العولمة عندما صاغ في نهاية عقد الستينيات مفهوم القرية الكونية، ثم تبعه "زبيغنيو بريجينسكي" مستشار الرئيس الأمريكي كارتر(1977م- 1980م) الذي أكدّ على ضرورة أنّ تقدّم أمريكا- التي تمتلك 65% من المادة الإعلامية على مستوى العالم- نموذجاً كونياً للحداثة، يحمل القيم الأمريكية في الحرية وحقوق الإنسان. (معن خليل العمر- قضايا اجتماعية معاصرة- 2001م )، ويقول الايطالي لورنس فينوتي: "إن الممارسة والخطاب الأنجليزي والأمريكي المهيمنين على عملية الترجمة وكذا الدراسات الترجمية قد عبدا الطريق أمام إستراتيجيتين سلستين وشفافتين، مما أنتج تبادلا ثقافيا "حيث توطن المختلف ثقافيا ليصير مفهوما'' (لورنس فينوتي- اختفاء المترجم- 1998)، والتوطين domestication أو localization يشير إلى تكييف السياق اللغوي لتلاءم مع المحتوى الثقافي المنقول إليه. كما أنه أورد في كتابه " فضائح الترجمة" إشارات واضحة على كيفية استخدام الترجمة في إعادة تشكيل وصياغة المفاهيم، وتغييب الهوية (لورنس فينوتي- فضائح الترجمة- 1998)
يلاحظ انحسار استعمال اللغة العربية في كثير من الدول العربية -والإسلامية- وهبوط نسبة إجادتها فيها بشكل عام نسبة لتحول الاختيار اللغوي والاتجاه الثقافي نحو الثقافة الغربية ، وكذا تراجع استعمال اللغة العربية في الاتصالات العالمية، وفي العلوم، فقد انكبت اللغة العربية في زماننا هذا على تلقي المصطلحات، والمفاهيم الحديثة الوافدة، بدلاً من الإسهام في البناء الحضاري، وهذا ما أتاح للمصطلحات الوافدة أن ترقى لدرجة الدخيل، حيث يستعمل كما ورد بإجراء تعديل صوتي، أو صرفي مناسب بحجة الحفاظ على المعنى المنقول وتبيينه، وهذا ما أثخن العربية بمفردات أجنبية، وعكر صفوها، وهدد هويتها.
إن هناك مستوى خفي لا يلحظه الكثيرون فيما يتعلق بتأثير الترجمة على اللغة العربية، وهو مستوى "أسر العقل العربي في حرب الخداع الثقافية"، وذلك من خلال خلق حالة من الشعور بالتبعية والإذعان الفكري لقوى ذات أغراض سياسية وثقافية لا يمكن أن نصفها بالبراءة، فتشرع تلك القوى تحت جنح الدعوة للعولمة ومن خلال سفن الترجمة إلى تمرير مصطلحات وألفاظ ترسخ لمفاهيم فكرية بعينها، وهي بذلك إنما تتخطى مرحلة التأثير اللفظي على اللغة، وتذهب إلى رأس اللغة ذاتها، ألا وهو الطريقة التي يفكر بها صاحب اللغة، فنجده مضطرا إلا التفكير بلغته تحت ضغط ما حملته الترجمة من مصطلحات ومفاهيم لم تألفها لغته، فتنشأ ازدواجية فكرية لغوية، يصعب على من يفتقر إلى راسخ اليقين والإيمان بلغته أن ينجو منها.
يذكر التاريخ جملة من الأدلة حول طرائق استغلال الترجمة في تشكيل الوعي اللغوي والثقافي في عالمنا العربي، ومن ذلك ما يرجع إلى موروثات العربية من الثقافات الأخرى كالفارسية والهندية واليونانية، والتي لا تزال آثارها باقية متأصلة في ثقافتنا العربية. كما أن تاريخ الاستعمار الغربي لبلداننا العربية يحمل أدلة تشير إلى الاستعانة بالمترجمين - خاصة الأجانب- ضمن نطاق الحملات الاستعمارية التي ضربت أوطاننا، بل والتعامل مع هؤلاء المترجمين بوصفهم جنود عسكريين لهم دور هام في الحروب النفسية والمعنوية، وكانت مهمة هؤلاء المترجمين التابعين للقوى الاستعمارية انتخاب نصوص بعينها تتم ترجمتها إلى العربية بهدف تمرير قناعات ومفاهيم تخدم أغراضهم، وإقحام مصطلحات وتعبيرات وتراكيب على المحتوى اللغوي العربي، ولا أدل على ذلك مما اقترفه ويليام ولكوكس من سعي خائب لإقصاء العربية الفصيحة ونشر العامية الركيكة خلال بدايات الاحتلال الانجليزي لمصر، وذلك من خلال قيامه بنشر ترجمات لمؤلفات ويليام شيكسبير في مجلة الأزهر عام 1893بلغة عامية مصرية ساعيا إلى إقصاء اللغة الفصيحة (زكريا سعيد نفّوسة- تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر-1980)
إننا حين نتفحص واقع استغلال العولمة لنشاط الترجمة لوجدنا أنها تركز على خلق حالة من الاحتكار الأحادي في سوق اللغة، وذلك من خلال السعي إلى بسط نفوذ لغة كونية واحدة، فتهيمن مصطلحاتها، وتعبيراتها وأساليبها، وتراكيبها، وحتى الصيغ الصوتية، فبتنا نسمع " الضاد" وكأنها "دال" و"الراء" وكأنها "غين". إن عولمة المفاهيم - كما يحلو للبعض وصفها- تتم من خلال مساقات الترجمة المختلفة، وتضع المتلقي العربي أمام خيارين: أولهما أن ينسلخ كليا عن هويته العربية ولغة تفكيره، وثانيهما أن يبتدع لغة مسخ يحافظ بها على شكل لغته الأم ويمزجها بتعبيرات واصطلاحات أجنبية، ويتحدث عالم الاجتماع الفرنسي بيربور ديوفي كتابه "أسئلة علم الاجتماع" عن استخدام الترجمة كأداة للعولمة لتحقق ما اسماه نطاق توسيع «السوق اللغوي الكوني» بما يشمله من احتكارات وعلاقات قوى واشكال من السيطرة، لها منطق نوعي، يسعى نحو احتواء التصورات التي تبني الوعي بالآخر، بل وبالعالم ومعرفته بما يستوجبه من محو ببخصوصية وإزالة للحدود(بيير بورديو: اسئلة علم الاجتماع- حول الثقافة والسلطة والعنف - 1995)
إن توظيف الترجمة لخدمة مساعي العولمة يدفعها إلى انتهاج ما يعرف بالانتحاء Tropism ، وذلك من خلال ترجمة مصطلحات ومفاهيم بألفاظ لا تحقق الدلالة الدقيقة، فتأتي المفاهيم ملتبسة يكتنفها الغموض والإبهام، وتؤدي إلى الخلط والتشتت، ومثال ذلك ترجمة لفظ الجلالة " الله" إلى كلمة "God" عند النقل إلى الإنجليزية أو ترجمة كلمتي " God" الإنجليزية، " Dieu" الفرنسية إلى لفظ الجلالة " الله" أو تترجم أحيانا بكلمة "القدر" وفي هذا عظيم الخطر، إذ أن هناك ثمة فوارق لغوية ودلالية وعقائدية تفصل بين مفهوم ودلالة لفظ الجلالة عند العرب والمسلمين و مفهم كلمتي " God، Dieu" وما تحملانه من دلالات وسمات عقائدية عند الغرب والمسيحيين، فالمتلقي العربي قد يقع في حالة التباس عندما يري ترجمة لنص أجنبي يشير فيه المترجم إلى إحدى الكلمتين بلفظ "الله"، ويجعله يتساءل إذا كان "الله" موجود بذات المعنى والدلالة في كل اللغات، فعلام الخلف في الدين والعقيدة؟!.
هناك نقطة أخرى تتعلق بسعي قوى العولمة لاستخدام الترجمة كأداة للسيطرة على صناعة المصطلحات والمفاهيم وتصديرها للغات الأخرى مثل مصطلحات صراع الحضارات، وحوار الأديان وغيرها، إن هذه المصطلحات في السياق العربي تختلف تماما عن المعاني والمفاهيم التي تعكسها في إطار اللغة الأجنبية، ومصطلح العولمة ذاته خير شاهد على ذلك.
يشير الأيرلندي "مايكل كرونين" في كتابه "الترجمة والعولمة" إلى تأثير العلاقة بين الترجمة والعولمة، وكيف استغلت قوى العولمة الترجمة كأداة لتغيير المفاهيم المختلفة، وكيف أحدثت الترجمة تحولات جذرية في تنظيم الأنشطة الإنسانية خاصة اللغوية والثقافية. (مايكل كرونين- الترجمة والعولمة- 2010)، وتقول الألمانية جوليان هاوس أستاذة اللغة بجامعة تورنتو الكندية في كتابها " الترجمة": "إن معرفتنا بالتأثير بعيد المدى الذي تركته حركة الترجمة الهائلة من اللغة الانجليزية على اللغات الأخرى محدود للغاية وربما لا يتعدى الاستعانة البسيطة بالمصطلحات في مجال التكنولوجيا والعلوم والاقتصاد. ويتجلى ذلك في البحوث التي تتناول تأثير اللغة الانجليزية ، من خلال الترجمة، على الصيغ اللغوية والثقافية التي تعبر عن ظواهر مثل توجهات الكتاب أو القراء وطرق ربط العبارات بالجمل واستخدام المجاز والتعبيرات الساخرة التي بدأت تشق طريقها مؤخرا. وهناك مؤشرات تدلل على وجود حركة ترجمة ظاهرة overt translation جديدة بدأت تتبلور حديثا وهي ترجمات تعمد إلى التصدي لعملية التصفية الثقافية وتتسبب في إبراز المعايير النصية الانجليزية. وربما يؤدي مثل هذا الأمر في نهاية المطاف الى اندماج لغوي وثقافي من خلال معايير الاستخدام للغات (الأضعف) التي سوف تتداخل مع معايير اللغة الانجليزية المهيمنة. (جوليان هاوس - الترجمة- 2009).
إن الترجمة وفق ما خبرته من دراسة وبحث وممارسة طوال ما يزيد على العقدين هي أكثر الأسلحة فاعلية بيد قوى العولمة، وكثيرا ما تستحيل الترجمة إلى حق يراد به باطل، فيدس البعض بين رحالها ما يوقعها في مغبة الاتهام، ويسمم أفكارها بمضامين وصيغ تخلق حالة من التشويش والخلط، فالترجمة ساحة واسعة تستعر على أرضها حرب ضروس هي حرب المفاهيم والمصطلحات بما تحويه من صيغ لغوية ومضامين ثقافية. لقد ظلت الترجمة حتى عهد قريب ترزخ تحت نير نظرة ضيقة يغلب عليها التعامل الهامشي مع الترجمة بوصفها نشاطا إبداعيا مكملا أو هامشيا، وذلك ليس مرجعه قلة أهميتها أو انعدام تأثيرها، وإنما سببه الخوف من التطرق لقضاياها التي تتقاطع مع حقول معرفية متعددة وفق ممارسات التواصل الإنساني.
لا يمكننا فصل عولمة الثقافة عن عولمة اللغة، ولا يمكن أن نتجاهل دور الترجمة كأداة تواصلية لها من الدور ما يتخطى نقل المكونات الثقافية بل إن الترجمة أداة من أدوات تمكين اللغات وبسط سيطرتها. كان العالم الكندي "مارشال ماك لوهان"- من جامعة تورنتو- أول من أشار إلى مصطلح العولمة عندما صاغ في نهاية عقد الستينيات مفهوم القرية الكونية، ثم تبعه "زبيغنيو بريجينسكي" مستشار الرئيس الأمريكي كارتر(1977م- 1980م) الذي أكدّ على ضرورة أنّ تقدّم أمريكا- التي تمتلك 65% من المادة الإعلامية على مستوى العالم- نموذجاً كونياً للحداثة، يحمل القيم الأمريكية في الحرية وحقوق الإنسان. (معن خليل العمر- قضايا اجتماعية معاصرة- 2001م )، ويقول الايطالي لورنس فينوتي: "إن الممارسة والخطاب الأنجليزي والأمريكي المهيمنين على عملية الترجمة وكذا الدراسات الترجمية قد عبدا الطريق أمام إستراتيجيتين سلستين وشفافتين، مما أنتج تبادلا ثقافيا "حيث توطن المختلف ثقافيا ليصير مفهوما'' (لورنس فينوتي- اختفاء المترجم- 1998)، والتوطين domestication أو localization يشير إلى تكييف السياق اللغوي لتلاءم مع المحتوى الثقافي المنقول إليه. كما أنه أورد في كتابه " فضائح الترجمة" إشارات واضحة على كيفية استخدام الترجمة في إعادة تشكيل وصياغة المفاهيم، وتغييب الهوية (لورنس فينوتي- فضائح الترجمة- 1998)
يلاحظ انحسار استعمال اللغة العربية في كثير من الدول العربية -والإسلامية- وهبوط نسبة إجادتها فيها بشكل عام نسبة لتحول الاختيار اللغوي والاتجاه الثقافي نحو الثقافة الغربية ، وكذا تراجع استعمال اللغة العربية في الاتصالات العالمية، وفي العلوم، فقد انكبت اللغة العربية في زماننا هذا على تلقي المصطلحات، والمفاهيم الحديثة الوافدة، بدلاً من الإسهام في البناء الحضاري، وهذا ما أتاح للمصطلحات الوافدة أن ترقى لدرجة الدخيل، حيث يستعمل كما ورد بإجراء تعديل صوتي، أو صرفي مناسب بحجة الحفاظ على المعنى المنقول وتبيينه، وهذا ما أثخن العربية بمفردات أجنبية، وعكر صفوها، وهدد هويتها.
إن هناك مستوى خفي لا يلحظه الكثيرون فيما يتعلق بتأثير الترجمة على اللغة العربية، وهو مستوى "أسر العقل العربي في حرب الخداع الثقافية"، وذلك من خلال خلق حالة من الشعور بالتبعية والإذعان الفكري لقوى ذات أغراض سياسية وثقافية لا يمكن أن نصفها بالبراءة، فتشرع تلك القوى تحت جنح الدعوة للعولمة ومن خلال سفن الترجمة إلى تمرير مصطلحات وألفاظ ترسخ لمفاهيم فكرية بعينها، وهي بذلك إنما تتخطى مرحلة التأثير اللفظي على اللغة، وتذهب إلى رأس اللغة ذاتها، ألا وهو الطريقة التي يفكر بها صاحب اللغة، فنجده مضطرا إلا التفكير بلغته تحت ضغط ما حملته الترجمة من مصطلحات ومفاهيم لم تألفها لغته، فتنشأ ازدواجية فكرية لغوية، يصعب على من يفتقر إلى راسخ اليقين والإيمان بلغته أن ينجو منها.
يذكر التاريخ جملة من الأدلة حول طرائق استغلال الترجمة في تشكيل الوعي اللغوي والثقافي في عالمنا العربي، ومن ذلك ما يرجع إلى موروثات العربية من الثقافات الأخرى كالفارسية والهندية واليونانية، والتي لا تزال آثارها باقية متأصلة في ثقافتنا العربية. كما أن تاريخ الاستعمار الغربي لبلداننا العربية يحمل أدلة تشير إلى الاستعانة بالمترجمين - خاصة الأجانب- ضمن نطاق الحملات الاستعمارية التي ضربت أوطاننا، بل والتعامل مع هؤلاء المترجمين بوصفهم جنود عسكريين لهم دور هام في الحروب النفسية والمعنوية، وكانت مهمة هؤلاء المترجمين التابعين للقوى الاستعمارية انتخاب نصوص بعينها تتم ترجمتها إلى العربية بهدف تمرير قناعات ومفاهيم تخدم أغراضهم، وإقحام مصطلحات وتعبيرات وتراكيب على المحتوى اللغوي العربي، ولا أدل على ذلك مما اقترفه ويليام ولكوكس من سعي خائب لإقصاء العربية الفصيحة ونشر العامية الركيكة خلال بدايات الاحتلال الانجليزي لمصر، وذلك من خلال قيامه بنشر ترجمات لمؤلفات ويليام شيكسبير في مجلة الأزهر عام 1893بلغة عامية مصرية ساعيا إلى إقصاء اللغة الفصيحة (زكريا سعيد نفّوسة- تاريخ الدعوة إلى العامية وآثارها في مصر-1980)
إننا حين نتفحص واقع استغلال العولمة لنشاط الترجمة لوجدنا أنها تركز على خلق حالة من الاحتكار الأحادي في سوق اللغة، وذلك من خلال السعي إلى بسط نفوذ لغة كونية واحدة، فتهيمن مصطلحاتها، وتعبيراتها وأساليبها، وتراكيبها، وحتى الصيغ الصوتية، فبتنا نسمع " الضاد" وكأنها "دال" و"الراء" وكأنها "غين". إن عولمة المفاهيم - كما يحلو للبعض وصفها- تتم من خلال مساقات الترجمة المختلفة، وتضع المتلقي العربي أمام خيارين: أولهما أن ينسلخ كليا عن هويته العربية ولغة تفكيره، وثانيهما أن يبتدع لغة مسخ يحافظ بها على شكل لغته الأم ويمزجها بتعبيرات واصطلاحات أجنبية، ويتحدث عالم الاجتماع الفرنسي بيربور ديوفي كتابه "أسئلة علم الاجتماع" عن استخدام الترجمة كأداة للعولمة لتحقق ما اسماه نطاق توسيع «السوق اللغوي الكوني» بما يشمله من احتكارات وعلاقات قوى واشكال من السيطرة، لها منطق نوعي، يسعى نحو احتواء التصورات التي تبني الوعي بالآخر، بل وبالعالم ومعرفته بما يستوجبه من محو ببخصوصية وإزالة للحدود(بيير بورديو: اسئلة علم الاجتماع- حول الثقافة والسلطة والعنف - 1995)
إن توظيف الترجمة لخدمة مساعي العولمة يدفعها إلى انتهاج ما يعرف بالانتحاء Tropism ، وذلك من خلال ترجمة مصطلحات ومفاهيم بألفاظ لا تحقق الدلالة الدقيقة، فتأتي المفاهيم ملتبسة يكتنفها الغموض والإبهام، وتؤدي إلى الخلط والتشتت، ومثال ذلك ترجمة لفظ الجلالة " الله" إلى كلمة "God" عند النقل إلى الإنجليزية أو ترجمة كلمتي " God" الإنجليزية، " Dieu" الفرنسية إلى لفظ الجلالة " الله" أو تترجم أحيانا بكلمة "القدر" وفي هذا عظيم الخطر، إذ أن هناك ثمة فوارق لغوية ودلالية وعقائدية تفصل بين مفهوم ودلالة لفظ الجلالة عند العرب والمسلمين و مفهم كلمتي " God، Dieu" وما تحملانه من دلالات وسمات عقائدية عند الغرب والمسيحيين، فالمتلقي العربي قد يقع في حالة التباس عندما يري ترجمة لنص أجنبي يشير فيه المترجم إلى إحدى الكلمتين بلفظ "الله"، ويجعله يتساءل إذا كان "الله" موجود بذات المعنى والدلالة في كل اللغات، فعلام الخلف في الدين والعقيدة؟!.
هناك نقطة أخرى تتعلق بسعي قوى العولمة لاستخدام الترجمة كأداة للسيطرة على صناعة المصطلحات والمفاهيم وتصديرها للغات الأخرى مثل مصطلحات صراع الحضارات، وحوار الأديان وغيرها، إن هذه المصطلحات في السياق العربي تختلف تماما عن المعاني والمفاهيم التي تعكسها في إطار اللغة الأجنبية، ومصطلح العولمة ذاته خير شاهد على ذلك.
يشير الأيرلندي "مايكل كرونين" في كتابه "الترجمة والعولمة" إلى تأثير العلاقة بين الترجمة والعولمة، وكيف استغلت قوى العولمة الترجمة كأداة لتغيير المفاهيم المختلفة، وكيف أحدثت الترجمة تحولات جذرية في تنظيم الأنشطة الإنسانية خاصة اللغوية والثقافية. (مايكل كرونين- الترجمة والعولمة- 2010)، وتقول الألمانية جوليان هاوس أستاذة اللغة بجامعة تورنتو الكندية في كتابها " الترجمة": "إن معرفتنا بالتأثير بعيد المدى الذي تركته حركة الترجمة الهائلة من اللغة الانجليزية على اللغات الأخرى محدود للغاية وربما لا يتعدى الاستعانة البسيطة بالمصطلحات في مجال التكنولوجيا والعلوم والاقتصاد. ويتجلى ذلك في البحوث التي تتناول تأثير اللغة الانجليزية ، من خلال الترجمة، على الصيغ اللغوية والثقافية التي تعبر عن ظواهر مثل توجهات الكتاب أو القراء وطرق ربط العبارات بالجمل واستخدام المجاز والتعبيرات الساخرة التي بدأت تشق طريقها مؤخرا. وهناك مؤشرات تدلل على وجود حركة ترجمة ظاهرة overt translation جديدة بدأت تتبلور حديثا وهي ترجمات تعمد إلى التصدي لعملية التصفية الثقافية وتتسبب في إبراز المعايير النصية الانجليزية. وربما يؤدي مثل هذا الأمر في نهاية المطاف الى اندماج لغوي وثقافي من خلال معايير الاستخدام للغات (الأضعف) التي سوف تتداخل مع معايير اللغة الانجليزية المهيمنة. (جوليان هاوس - الترجمة- 2009).
تعليق