[align=justify]هذه خاطرة كتبتها في أكتوبر / تشرين الثاني 2009:
[align=justify]لا يشبه يوم التاسع والعشرين من شهر تشرين الأول/أكتوبر الحالي أيّا من الأيام الأخرى بالنسبة إليَّ، ليس لأني رُزقت فيه أول مولود لي ـ ابنتي الوحيدة التي نقلتني إطلالتها على الحياة من مرحلة البداوة في حياتي إلى مرحلة الأبوة والمسؤولية، والتي بدأت هذه السنة عامها الجامعي الأول .. وليس لأني رُزقت في الثامن منه أيضا خاتمة إنتاجي من الأبناء ـ ابني الأصغر (مهران) الذي بلغ لتوه السادسة من عمره، بل لأنه أيضا اليوم الذي اضطررت فيه إلى مغادرة الوطن .. لأبدأ رحلة لم أكن أتصور، ولو لوهلة، إلى أين ستفضي بي. رحلة بدأت في التاسع والعشرين من شهر تشرين الأول/أكتوبر سنة 1979، ولا تزال متصلة، حتى اليوم، ثلاثين عاما .. مرت كلها وكأنها ثلاثة أعوام .. عاشرت فيها أناسا من مختلف الأجناس والألوان والأديان والمذاهب والقبائل .. وتعرفت فيها على أقوام من بلاد شتى، وسحت فيها كثيرا، فزرت أكثر بلاد الشرق والغرب، وفي الشمال والجنوب، وقادني فضولي إلى أماكن كثيرة، وإلى مواقف كثيرة، بعضها ماتع، وبعضها أستحيي من سرده .. ذلك لأني اجتهدت في معرفة الأشياء فلا أكون جاهلا بها، إرضاء لفضول غريب انتابني ذات يوم عندما كنت أزور متحفا في مدينة حماة، فيه رقم ونقوش أثارت فضولي، فبدأت مسيرة طويلة من الدرس، اخترت فيها، بعناية، كل ما أحببت أن أختار بمحض أرادتي، بلا تدخل أهل ـ غائبين أصلا ـ يتوقعون من ابنهم أن يكون طبيبا أو مهندسا وما أشبه ذلك من مهن تدعو إلى الاحترام في البيئة التي أتى منها ..
ثلاثون عاما مرت، بحلوها ومرها، بذكرياتها، بآلامها، بأحلام تحققت، وأخرى لم تتحقق .. لأكتشف معها، وأنا أبحث عن ذكرى، أن ثلاثين عاما من ذاكرتي قد امّحت، لتصبح الذاكرة أشبه بلوحة؛ ثلثها ورد وفل وياسمين، وثلثاها شوك .. ثلاثون عاما من الذاكرة امّحت، ما عدا الأحزان، فهذه لا تمحي، ولا تذهب، فهي باقية دائما، لكنها تتوهج كلما أطل تشرين .. وذلك على الرغم من القساوة التي تغشى قلب الغريب بفعل السنين .. لقد تزاحمت هذه السنة صور وذكريات كثيرة على قلبي، عجزت عن التعبير عنها هذه المرة عجزا غير مألوف، ربما لأن الزمن طال، فصار بعض تلك الصور يتماهى عليّ وينكرني، فتتنكر لي اللغة .. وربما لأني لم أعد أستطيع استحضار ذكريات لم تعد ذاكرتي تختزنها كاملة .. إنها بداية النهاية، نهاية العلاقة مع الشيء .. وربما هي تجديد العلاقة به .. وربما لا هذا ولا ذاك!
لكني تذكرت، في غضون ذلك، شيئا واحدا: أيقنت أن الله سبحانه رزقني ولدين في أول هذا الشهر وفي آخره كي لا أفكر بغيرهما .. لكي لا أفكر إلا بهما وببقية أسرتي الصغيرة، بدلا من التفكير بالماضي الذي لم يعد ينفع التفكير فيه في شيء .. لقد آن الأوان للتخلص من الماضي، ومن ذكرياته الحزينة معه .. ومن أسباب التفكير فيه .. لقد آن الأوان لرسم الوطن في لوحة، ثم حرقها بالنار .. ونثر رماده في الحديقة .. فقد يزهر الرماد، ذات يوم، وردا وفلا وياسمين .. وقد يستحيل الورد والفل والياسمين وطنا، وقد لا يستحيل ..
ثلاثون عاما، ولا يزال الدرب مجهولا ..[/align]
واليوم، بعد سنتين من كتابة هذه الخاطرة، أرى أن الورد والفل والياسمين قد يزدهر وطنا حقيقيا .. وأن الطيور المهاجرة ستعود إلى الوطن بعد طول غياب ..
قد يخرجونك من الوطن، ولكنهم أعجز من أن يخرجوا الوطن منك .. فعلى مدار اثنتين وثلاثين سنة وأنا أجعل وطني في قلبي، وأنا أجعل من قلبي وطني، ومن وطني قلبي، فلا أشعر بالغربة قط .. فأنا مقيم فيك، أيها الوطن، منذ أخرجوني منك قبل اثنتين وثلاثين سنة، ظلما وعدوانا، لم أبرح قط، ولن أبرح قط .. سأبقى أتقمصك حتى يهدأ القلب، فتموت معي، أينما كنت .. وأينما تولّينا، فثم وجه الله .. فلا تحزن أيها الوطن، إن مُتَّ في المنافي، فهذه الأرض كلها لله ..
لكن لنا في ترابك أحبة تمنعنا أجداثهم من العبث فيك، أو إلحاق الأذى بك، كما يفعل الجهلة ..
يرحمك ـ أيها الوطن ـ وإيانا الرحمن.
[/align]
ثلاثون عاما
[align=justify]لا يشبه يوم التاسع والعشرين من شهر تشرين الأول/أكتوبر الحالي أيّا من الأيام الأخرى بالنسبة إليَّ، ليس لأني رُزقت فيه أول مولود لي ـ ابنتي الوحيدة التي نقلتني إطلالتها على الحياة من مرحلة البداوة في حياتي إلى مرحلة الأبوة والمسؤولية، والتي بدأت هذه السنة عامها الجامعي الأول .. وليس لأني رُزقت في الثامن منه أيضا خاتمة إنتاجي من الأبناء ـ ابني الأصغر (مهران) الذي بلغ لتوه السادسة من عمره، بل لأنه أيضا اليوم الذي اضطررت فيه إلى مغادرة الوطن .. لأبدأ رحلة لم أكن أتصور، ولو لوهلة، إلى أين ستفضي بي. رحلة بدأت في التاسع والعشرين من شهر تشرين الأول/أكتوبر سنة 1979، ولا تزال متصلة، حتى اليوم، ثلاثين عاما .. مرت كلها وكأنها ثلاثة أعوام .. عاشرت فيها أناسا من مختلف الأجناس والألوان والأديان والمذاهب والقبائل .. وتعرفت فيها على أقوام من بلاد شتى، وسحت فيها كثيرا، فزرت أكثر بلاد الشرق والغرب، وفي الشمال والجنوب، وقادني فضولي إلى أماكن كثيرة، وإلى مواقف كثيرة، بعضها ماتع، وبعضها أستحيي من سرده .. ذلك لأني اجتهدت في معرفة الأشياء فلا أكون جاهلا بها، إرضاء لفضول غريب انتابني ذات يوم عندما كنت أزور متحفا في مدينة حماة، فيه رقم ونقوش أثارت فضولي، فبدأت مسيرة طويلة من الدرس، اخترت فيها، بعناية، كل ما أحببت أن أختار بمحض أرادتي، بلا تدخل أهل ـ غائبين أصلا ـ يتوقعون من ابنهم أن يكون طبيبا أو مهندسا وما أشبه ذلك من مهن تدعو إلى الاحترام في البيئة التي أتى منها ..
ثلاثون عاما مرت، بحلوها ومرها، بذكرياتها، بآلامها، بأحلام تحققت، وأخرى لم تتحقق .. لأكتشف معها، وأنا أبحث عن ذكرى، أن ثلاثين عاما من ذاكرتي قد امّحت، لتصبح الذاكرة أشبه بلوحة؛ ثلثها ورد وفل وياسمين، وثلثاها شوك .. ثلاثون عاما من الذاكرة امّحت، ما عدا الأحزان، فهذه لا تمحي، ولا تذهب، فهي باقية دائما، لكنها تتوهج كلما أطل تشرين .. وذلك على الرغم من القساوة التي تغشى قلب الغريب بفعل السنين .. لقد تزاحمت هذه السنة صور وذكريات كثيرة على قلبي، عجزت عن التعبير عنها هذه المرة عجزا غير مألوف، ربما لأن الزمن طال، فصار بعض تلك الصور يتماهى عليّ وينكرني، فتتنكر لي اللغة .. وربما لأني لم أعد أستطيع استحضار ذكريات لم تعد ذاكرتي تختزنها كاملة .. إنها بداية النهاية، نهاية العلاقة مع الشيء .. وربما هي تجديد العلاقة به .. وربما لا هذا ولا ذاك!
لكني تذكرت، في غضون ذلك، شيئا واحدا: أيقنت أن الله سبحانه رزقني ولدين في أول هذا الشهر وفي آخره كي لا أفكر بغيرهما .. لكي لا أفكر إلا بهما وببقية أسرتي الصغيرة، بدلا من التفكير بالماضي الذي لم يعد ينفع التفكير فيه في شيء .. لقد آن الأوان للتخلص من الماضي، ومن ذكرياته الحزينة معه .. ومن أسباب التفكير فيه .. لقد آن الأوان لرسم الوطن في لوحة، ثم حرقها بالنار .. ونثر رماده في الحديقة .. فقد يزهر الرماد، ذات يوم، وردا وفلا وياسمين .. وقد يستحيل الورد والفل والياسمين وطنا، وقد لا يستحيل ..
ثلاثون عاما، ولا يزال الدرب مجهولا ..[/align]
واليوم، بعد سنتين من كتابة هذه الخاطرة، أرى أن الورد والفل والياسمين قد يزدهر وطنا حقيقيا .. وأن الطيور المهاجرة ستعود إلى الوطن بعد طول غياب ..
قد يخرجونك من الوطن، ولكنهم أعجز من أن يخرجوا الوطن منك .. فعلى مدار اثنتين وثلاثين سنة وأنا أجعل وطني في قلبي، وأنا أجعل من قلبي وطني، ومن وطني قلبي، فلا أشعر بالغربة قط .. فأنا مقيم فيك، أيها الوطن، منذ أخرجوني منك قبل اثنتين وثلاثين سنة، ظلما وعدوانا، لم أبرح قط، ولن أبرح قط .. سأبقى أتقمصك حتى يهدأ القلب، فتموت معي، أينما كنت .. وأينما تولّينا، فثم وجه الله .. فلا تحزن أيها الوطن، إن مُتَّ في المنافي، فهذه الأرض كلها لله ..
لكن لنا في ترابك أحبة تمنعنا أجداثهم من العبث فيك، أو إلحاق الأذى بك، كما يفعل الجهلة ..
يرحمك ـ أيها الوطن ـ وإيانا الرحمن.
[/align]
تعليق