يطلب الكتاب من
كالة سفنكس للترجمة والنشر والتوزيع
7 شارع معروف - الدور السابع
وسط البلد - القاهرة
ت: 5682-975-02-002
موبايل: 01068801545
الشخصيـات
فرانس لارمانس: موظف في شركة البحرية العامة وبناء السفن، ثم رجل أعمال، ثم موظف مرة أخرى.
أم لارمانس: (سيدة طاعنة في السن، تعاني من الخرف، وتموت).
الدكتور لارمانس: أخو فرانس.
السيد ڤان شخونبيكه: صديق الدكتور لارمانس، وسبب جميع المشاكل.
هورنسترا: تاجر أجبان من أمستردام
فاين: زوجة فرانس لارمانس
جان وإيدا: ابن لارمانس وفاين وابنتهما
السيدة پيترز: جارة مصابة بمرض الصفراء
هامِر: رئيس المحاسبين في شركة البحرية العامة
آنا ڤان دِر تاك، تال، إرفورت، بارتِروته: موظفون في شركة البحرية العامة
بورمان: استشاري في الأعمال التجارية
پايت العجوز: سائق مركبة في شركة البحرية العامة
ڤان دِر زيجپِن: يريد أن يصبح شريكًا لفرانس لارمانس
أصدقاء ڤان شخونبيكه
الفصـل الأوَّل
ولكن ينبغي أن أخبرَك أوَّلًا أن أُمِّـي قد ماتَتْ.
كان هذا أمرًا بغيضًا بكل تأكيدٍ -ليس لها فقط- بل ولأَخَوَاتي أيضًا؛ ذلك أنَّ سهرَهُنَّ عليها كادَ أن يفتكَ بهنَّ.
كانت أُمُّنَا عجوزًا، طاعنةً في السن، وإنْ كنتُ لا أذكرُ عمرَها بدقةٍ. ولكنها لم تكن مريضةً بالمعنى الحقيقيِّ للمرضِ، وإنما عمَّ الضعفُ والوهنُ جسدَها كلَّه.أما أختي الكبرى -التي كانت تعيشُ معها- فكانت تعامِلُها معاملةً كريمةً؛ فتغمسُ لها الخبزَ في اللبن، وتتأكدُ من ذهابها للحمَّام، وتعطيها البطاطسَ لتقشيرها لتُشْغِلَها بعمل شيءٍ ما يدفعُ عنها المللَ. وكانت أُمُّنَا تقشِّرُ وتقشِّرُ كما لو كان عليها أن تُطعمَ جيشًا بأكمله. وكنا جميعًا نأخذُ البطاطسَ إلى بيتِ أختي كي تقشرَها لنا، بل وكانت تقشر بطاطسَ جارتنا التي تسكنُ في الدورِ العُلْوِيِّ، ومعها بطاطسُ جاراتٍ أخرياتٍ. والسببُ في هذا أنهن حاولن -ذاتَ مرةٍ- أن يعطوها دَلوًا من البطاطسِ المقشرةِ لتُعيدَ تقشيرَها من جديدٍ حين كان مخزونُ البطاطسِ قليلًا، ولكنها انتبهتْ إلى هذا وقالتْ: "هذه البطاطسُ مُقَشَّرَةٌ بالفعلِ".
وَلَمَّا لم تستطعْ أنْ تقشِّرَ أكثرَ من هذا -بعدَ فقدِها القدرةَ على التحكمِ في تناسقِ عملِ يديْها، وضعفِ بصرِها- أعطتْها أختي كُتَلًا من الصوفِ والأليافِ المضغوطةِ من كثرةِ النومِ عليها لتفصلَها نتفًا عن بعضِها بعضًا. ونتجَ عن هذا غبارٌ كثيرٌ حتى أنَّ الزَّغَبَ كان يغطي أُمَّنَا من رأسِها إلى أخمصِ قدميْها.
واستمرت هذه الحالُ فترةً طويلةً، ليلًا ونهارًا: ما بين نعاسٍ ونتفٍ، ثم نعاسٍ ونتفٍ، وهكذا. ومن وقتٍ إلى آخرَ كان يفصلُ بين النتفِ والنُّعاسِ ابتسامةٌ، لا يعلمُ إلا الله لمن كانت.
ولم تستطعْ أن تتذكرَ شيئًا عن أبي، الذي لم تمر على وفاتِه سوى خمسُ سنواتٍ، رغم أنهما أنجبا تسعةَ أطفالٍ معًا.
وحين كنتُ أذهبُ لزيارتها كنتُ أتحدثُ عنه بين الفينةِ والأخرى محاولًا أن أضيفَ إلى حياتِها ومضةً من الذكريات.
وكنتُ أسألُها إذا كانت بالفعلِ لم تعدْ تذكر ُكريس (فقد كان هذا هو اسمُه).
كانت تبذلُ جهدًا كبيرًا في متابعةِ ما أقولُه لها. وبدا منها أنها مدركةٌ لحاجتِها أن تفهمَ ما كنتُ أخبرُها به، فكانت تميلُ إلى الأمامِ وهي جالسةٌ على كرسيِّها، وتحدِّقُ فيَّ، وعلى وجهِها علاماتُ التركيزِ الشديد، وتبرُزُ من عارضتيْها العروقُ، كما لو كانت مصباحًا يوشكُ على الانفجارِ.
ثم لا تلبثُ أن تنطفئَ تلك الومضةُ من جديدٍ لتبتسمَ لك ابتسامةً تنفذُ من خلالِك. وإذا ما ضَغَطْتُ عليها كي تقدحَ زنادَ فكرِها بعضَ الشيءِ كانت تُصابُ بالفزعِ.
ولم يعدْ للماضي وجودٌ بالنسبةِ لها. لم يكنْ هناك كريس ولا الأولادُ. كل ما بقيَ هو نتفُ الأليافِ.
ولكن ظلَّ شيءٌ واحدٌ باقيًا في ذهنِها، وهو أنها لم تدفعْ بعدُ القسطَ الأخيرَ من الرهنِ العقاريِّ على واحدٍ من بيوتها! فهل كانت تحاولُ جاهدةً أن تجمعَ ذاك القدر القليل المتبقي من المال قبل رحيلِها؟
وكانت أختي -عافاها اللهُ- تتحدثُ عنها في وجودِها بضميرِ الغائبِ؛ فتقول "لقد أصابتني بالضجرِ اليومَ".
وبعد أن فقدتْ أمُّنا قدرتَها على النتف، كانت تجلُس واضعةً يديْها الزرقاوين الملتويتين متوازيتين على ركبتيها، أو تضطجعُ على كرسيِّها لساعاتٍ طويلةٍ كمن فقدَ القدرةَ على التوقف عن النتف. وأضحت لا تعرفُ الأمسَ من الغدِ؛ إذ أصبح كلاهما بالنسبة لها يعني وقتًا "غير الآن". فهل كان هذا بسببِ ضعفِ بصرِها، أم لأنَّ الأرواحَ الشريرةَ كانت تعذبُها طيلة الوقت؟ لا ندري. وعلى أية حالٍ فلم تعدْ تميزُ الليلَ من النهار، وكانت تستيقظ حين ينبغي أن تكونَ نائمةً، وتنامُ حين يُفْتَرَضُ أن تتبادلَ معها الحديثَ.
وكانت تستطيع المشي قليلًا إذا ما استندت إلى الجدار أو الأثاث. وفي الليل -حين ينامُ الجميعُ- كانت تترنحُ بخطًى ثقيلةٍ وتسير إلى كرسيِّها، حيث تجلسُ وتبدأُ في نتف أليافٍ لا وجودَ لها، أو تشرعُ في رحلةِ بحثٍ حتى تعثرَ على مطحنةِ بذورِ القهوةِ كما لو كانت ستعدُّ قهوةً لصديقٍ تعرفُه أو لشخصٍ آخر!
وكانت دائمًا ما تضعُ تلك القبعةَ السوداءَ فوق رأسِها الأشيبِ، حتى في اللَّيل. فقلْ لي: هل تؤمنُ بالسحرِ والشعوذةِ؟
وأخيرًا رقدتْ دون حراكٍ. وحين سمحتْ أن ننزعَ عنها تلك القبعةَ بهدوءٍ ودون مقاومةٍ عَرَفْتُ ساعتَها أنها لن تقومَ من رُقَادِها ذاك ثانيةً.
تعليق