كَلْبٌ وَحِمَـارٌ

تقليص
X
 
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة
  • ahmed_allaithy
    رئيس الجمعية
    • May 2006
    • 4026

    كَلْبٌ وَحِمَـارٌ

    كَلْبٌ وَحِمَـارٌ


    كَانَ فِي إِحْدَى الْغَابَاتِ كلبٌ هجينٌ، حِينَ يَعْلُو نباحُه يصبحُ أشبهَ بعواءِ الذِّئابِ، وحينَ يبتسمُ يبرزُ نابانِ كأنيابِ الثعالبِ. لا يعرفُ أحدٌ على وجهِ التحديدِ كيفَ تجمعَ فيهِ مِنْ كلِّ خصلةٍ دنيئةٍ طرفٌ، حَتَّى أنَّ حيواناتِ الغابةِ أخذتْ تتناقلُ عنهُ حكاياتٍ نسجتْها خيالاتُ القصَّاصين، أو دسَّتها عليْهِ ضغائنُ الكارهينَ. ومنها ما تصادفَ أنَّهُ حقٌّ صُراحٌ، ولكنَّ تَعَدُّدَ الرواياتِ، وتعارضَ الكثيرِ منها أَضْفَى عليها مِسْحَةً أسطوريةً. وَمِنْ ذَلِكَ أنَّهُ حين وُلد كانتْ إحْدَى عينيهِ مفتوحةً والأُخْرَى مغلقةً، وقبلَ أَن يَّتَمَكَّنَ من الْتِقَامِ ثَدْيِ أمِّه عضَّته حِرْبَاءٌ رَقْطَاءُ غرستْ نابَها في قلبِه فحملَ دمُه ريقَها إلى جميعِ جسدِه، وعافتْه أمُّه بعدَ يومٍ وليلةٍ، فامتنعتْ عن إرضاعِه؛ فتحوَّلَ عنها إلى أمِّ خنوصٍ لم يمر على ولادتِها الثانيةِ تسعةُ أيامٍ، ثم إلى أمِّ خنور وُلِدَت في محاقٍ، وحَمَلَتْ في بَدْرٍ، ووَلَدَتْ في خُسُوفٍ. ولكلِّ قصةٍ من تلك القصصِ دِلالَةٌ في عالمِ الحيوانِ. ونشأ الكلبُ قاسيَ القلبِ، داميَ النَّابِ، خبيثَ الطويَّةِ، مُتقلِّبَ المِزاجِ، متلونَ الأخلاقِ، تملؤهُ الشكوكُ والظنونُ، لا يستقرُّ له قرارٌ، في ليلٍ أو نهارٍ. إنْ رضيَ فَعَدُوُّهُ صديقٌ، وإنْ غَضِبَ عَمِيَتْ عيناهُ عن الحقِّ. لا يعرفُ الوفاءَ على غيرِ عادةِ الكلابِ، وينبشُ القبورَ على عادةِ الثعالبِ والذئابِ، ويأكلُ الجيفةَ على عادةِ الضِّبَاعِ، ويصادقُ الأراذلَ على عادةِ أهِلِ الدناءةِ، ويتبعُه الناعقونَ على عادةِ المتسلقِين ومحترفِي النفاقِ، وما أكثرَهم في عالمِ الحيوانِ!

    وجاءتِ الحكاياتُ في فَمِ الغربانِ عما يفعلُه الكلبُ: فمرةً عضَّ رشأً، وأُخْرى نَهَشَ ريمًا، وثالثةً خَمَشَ أرنبةً، ورابعةً نَهَرَ تيسًا، وخامسةً زَجَرَ حَمَلاً، وسادسةً وَلَغَ في سُؤْدُدِ وَرْدٍ، وسابعةً شَتَمَ فَهْدًا، وثامنةً دَاسَ شبوةً، وتاسعةً قَنَصَ عدملةً، وعاشرةً بَالَ على شرغٍ. وفي إحِدَى الليالي نهشَ عسقلةً كانت من قبلُ أثيرةً عندَهُ بعد أنْ صدَّتْهُ عنها بعد تقرُّبٍ وغوايةٍ. وهكذَا دَوَالَيْك.

    وكانت كلُّ دابةٍ تَتَأَذَّى تجلسُ تندبُ حظَّها في خُفُوتٍ تارةً، وفي عواءٍ تارةً أخرى. وفي يومٍ سَمِعَ محلاجٌ قصيرُ الذيلِ -نهيقُه أشدُّ من رَفْسِهِ- شكاةَ الدوابِّ؛ فأثارَ ما أَلَمَّ بهاَ في نفسِه نزعةَ عِرْقٍ من سفواءَ في أسلافِه اختلفتِ الأقوالُ في نسبِها وعَقِبِها. فذهبَ إلى الكلبِ في عقرِ دارِهِ، وأخذَ ينهقُ كالمطعونِ في شرفِه، فخرجَ له الكلبُ وَزَجَرَهُ بزمجرةٍ واحدةٍ فرَّ منها المحلاجُ لا يَلْوِي على شيءٍ وقد بلَّلَ سَاقَيْهُ، وَخَلَّفَ وراءَهُ أثرًا نَقَلَتْ خبرَهُ رِيحُ العَارِ.

    ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ عادَ في مُسوحِ الرُّهْبَانِ وعليه عَباءَةٌ من جِلْدِ حَمَلٍ، ورفعَ على طرفِ عصا -كانت من قبلُ ساقَ رَأْلٍ- عَلَمًا أبيضَ من ريشِ قُبَّرة وحمامةٍ تركَهُما المحلاجُ تصارعانِ البردَ بعد أن نُّتِفَ ريشُهُمَا، وأخذَ يصيحُ في حيواناتِ الغابةِ في قوةٍ وصلابةٍ إنَّه دَاعِي السَّلامِ، وناشرَ الحبِّ والوئامِ، وإن العفوَ عن الكلابِ والذئابِ، له جزيلُ الثوابِ. وقد حانَ الوقتُ كي تتصافى القلوبُ، وتتلاقى المشاربُ والدروبُ؛ فيمسحُ الأرنبُ على جراحِ الثعلبِ، ويعانقُ الفأرُ العقربَ، ويُطَبِّبُ القِطُّ ما نَكَأَهُ في قلبِ الْكَلْبِ، ويهدلُ الحمامُ، ويرفرفُ اليمامُ حاملاً أغصانَ الزيتونِ وأكاليلَ الغارِ، وتنعقدُ حفلاتُ الانتصارِ على النفوسِ الأمَّارةِ بالسوءِ؛ فالمحبةُ والسلامُ هما الطريقُ إلى الأمامِ، وَلْيَنْسَ الجميعُ الأحقادَ، وَيَدْفِنُوا مخاوفَهم في حَشَا الأكبادِ، وينهضُوا بعد طولِ رُقادٍ وقد غَسَلَ الحبُّ سخيمتَهم، وطهَّر الودُّ أرواحَهم.

    وبيَّنَا بعضُ الحيواناتِ في صدمةٍ وذهولٍ، إذْ رَأَوُا الكلبَ يأتي لاهثًا وقد رَفَعَ رايةً كرايةِ المحلاجِ، ووقفَ في أولِ الصَّفِ ينتظرُ طابورَ المعتذرينَ، ويهزُّ ذيلَه في زَهْوِ الفاتحينَ.

    فخرجتْ جوزلٌ بعدَ أنْ رأتْ غيابَ المستجيبينَ، وقالتْ للمحلاجِ: "لَوْلا أَنَّكَ حِمَاٌر، لقلتُ إنَّكَ تيْسٌ!"

    وَتَقَدَّمَ في أَثَرِهَا هبعٌ فقالَ للكلبِ والمحلاجِ: "لَيْسَ لَكُمَا عِنْدِي غيرُ الْبَعْرِ."

    فَنَهَرَهُمَا المحلاجُ في خُنُوعٍ وَتَصَنُّعٍ. وكَشَّرَ الكلبُ للجوزلِ عن أنيابِه، ثم استدارَ للمحلاجِ، وقالَ لَهُ: "لم يكنْ هذا ما اتَّفَقْنَا عليهِ."
    فوضعَ المحلاجُ ذيلَه بين رِجْلَيْه وطأطأ رأسَه، ولسانُ حالِه يقولُ: "يا لكَ من أبْلَهٍ! هلْ كنتَ تتوقعُ المعجزاتِ من محلاجٍ؟!"

    ثم بَرَزَ لِلْكَلْبِ كُمَيْتُ، وقالَ لَهُ: "ما أنتَ إلا كلبٌ غَرَّهُ حمارٌ." ثمَّ تمثَّلَ: "ضَلَّ مَنْ كَانتِ الْعِمْيَانُ تَهْدِيهِ."

    فزمجرَ الكلبُ ثانيةً، وَمَضَى وَهُوَ يَلْهَثُ ويُزْبِدُ بعدَ أنْ مَرَشَ المحلاجَ في دُبُرِهِ، وهُوَ يقولُ: "سَتَرَوْنَ بَأْسِي، وستسمعونَ عوائِي، ما بقيَ فيَّ عِرْقٌ ينبضُ."

    فَقَالَ المحلاجُ: "خَلَقَنِي رَبِّي حِمَارًا، وَالآنَ عَرَفْتُ السَّبَبَ."

    وَمُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَدْرَكَ الْكَلْبُ -وَكُلُّ كَلْبٍ بَعْدَهُ- أَنَّ مِحْلاَجًا واحِدًا لاَ يَكْفِي –حَتَّى فِي عَالَمِ الدَّوابِ- لِتَحْقِيقِ السِّيَادَةِ الِّتِي تَحْتَاجُ إِلَى أَكْثَرَ مِنْ مِحْلاَجٍ، يُؤَدِّي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ دَوْرًا إِلَى حِينٍ، يُمَهِّدُ بِهِ لِلْكَلْبِ طَرِيقَهُ، وَحِينَ يَبْلُغُ الْمِحْلاَجُ الْقَنْطَرَةَ يَتَنَحَّى لِيَحِلَّ مَحَلَّهُ غَيْرُهُ. وَلِذَا لاَ تَعْجَبْ حِينَ تَرَى الْكِلاَبَ الْهُجْنَ فِي صُحْبَةِ الْمَحَالِيجِ.
    د. أحـمـد اللَّيثـي
    رئيس الجمعية الدولية لمترجمي العربية
    تلك الدَّارُ الآخرةُ نجعلُها للذين لا يُريدون عُلُوًّا فى الأَرضِ ولا فَسادا والعاقبةُ للمتقين.

    فَعِشْ لِلْخَيْرِ، إِنَّ الْخَيْرَ أَبْقَى ... وَذِكْرُ اللهِ أَدْعَى بِانْشِغَالِـي

  • RHajjar
    عضو رسمي
    • Nov 2008
    • 310

    #2
    الدكتور الفاضل أحمد،
    هي من أروع ما كتبت حضرتك في مجال الحكمة،ومن أجمل ماقرأنا حقًا من حيث مماثلتها للواقع على مختلف مستوياته!
    وشكرًا لك لأننا سنضطر للعودة للقاموس كي نبحث عن معان كلمات ندراستخدامها وكادت تندثر، ربما المعنى العام واضح في الجملة، ولكن معني الكلمات لابد لنا من البحث عنه للوصول له.

    دمت محييا للغتنا العربية الجميلة.

    تعليق

    • ahmed_allaithy
      رئيس الجمعية
      • May 2006
      • 4026

      #3
      المشاركة الأصلية بواسطة rhajjar
      الدكتور الفاضل أحمد،
      هي من أروع ما كتبت حضرتك في مجال الحكمة،ومن أجمل ماقرأنا حقًا من حيث مماثلتها للواقع على مختلف مستوياته!
      وشكرًا لك لأننا سنضطر للعودة للقاموس كي نبحث عن معان كلمات ندراستخدامها وكادت تندثر، ربما المعنى العام واضح في الجملة، ولكن معني الكلمات لابد لنا من البحث عنه للوصول له.

      دمت محييا للغتنا العربية الجميلة.
      الأخت الفاضلة الدكتورة رود
      شكر الله مرورك، ومجاملتك الطيبة.
      والتمثيل بالحيوان تقليد قديم، وكتبت كثير من كتب الحكمة العالية بمثله، ومنها حكايات ايسوب في اليونانية، ومزرعة الحيوانات لجورج أورويل، ومجمع الأحياء للعقاد، بل والحيوان للجاحظ، وغير ذلك مما نعرفه جميعًا.

      ولا يخلو إنسان من صفات يجد مثيلاً لها غالبًا عن بعض الحيوان، بعدها للمدح، وبعضها للذم، وليس لأحد من الخلق أن يدَّعي الكمال.

      أما العودة للمعاجم والقواميس فشيء طيب؛ لأن المرء يفيد من المراجعات، والنظر في الكتب، وهو ما نفتقره جميعًا في هذا الزمان.

      ولا أظنني أعلم على وجه اليقين أيًّا من الألفاظ تعنين، ولكن يمكنني المساعدة تخمينًا أنك تعنين بعضًا مما يلي:
      رشأ: الظبية الصغيرة أو الغزال الصغير
      ريم: الظبية البيضاء
      وَرْد: الأسد
      شبوة: العقرب
      عدملة: أنثى الضب
      شرغ: صغير الضفدع
      عسقلة: أنثى الذئب
      محلاج: الحمار
      سفواء : أنثى البغل
      رأل: صغير النعامة
      قُبَّرة : البلبل
      جوزل : صغير الحمام
      هبع : صغير الجمل
      كُمَيْت: الأسد

      شكاةَ : شكوى

      د. أحـمـد اللَّيثـي
      رئيس الجمعية الدولية لمترجمي العربية
      تلك الدَّارُ الآخرةُ نجعلُها للذين لا يُريدون عُلُوًّا فى الأَرضِ ولا فَسادا والعاقبةُ للمتقين.

      فَعِشْ لِلْخَيْرِ، إِنَّ الْخَيْرَ أَبْقَى ... وَذِكْرُ اللهِ أَدْعَى بِانْشِغَالِـي

      تعليق

      • Aya waheed
        weissherz
        • Jan 2010
        • 644

        #4
        في الحقيقة هذه قصة يصعب فهمها وفهم ما وراءها بالنسبة لى ....أنا كل ما توصلت إليه أن فيها إسقاط على عالم الإنسان ...اكثر من هذا لم اتوصل من هو المحلاج فى عالمنا !! من هو الكلب!! وماذا كان يقصد المحلاج بما فعله فى نهاية الحكاية !!
        [align=center]Ich bin verwirrt[/align]

        تعليق

        • RHajjar
          عضو رسمي
          • Nov 2008
          • 310

          #5
          *نعم، شكرًا جزيلا دكتور لإضافة المفردات، لأن قسمًا كبيرًا بينها كان غير معروف لي...
          وإن كنت أعرف أن اسم ابن الجمل هو " القعود"، ولكن يبدو أن له اسمان ، فهو" هبع" أيضًا.
          وقد بحثت عن " الخنوص" فوجدته صغير الحنزير.
          أما " الخنور" فلم أعثر له على أثر؟

          **وللعزيزة آية أود أن أقول، لا أظن الحكاية قد صعبت عليك، وإنما يبدو أنك لم تري أمثلة لشخصيات الحكاية في الواقع...والحمد لله.
          و بالنسبة لي ربما وجدتُ في الحكمة التي سيقت على ألسنة الحيوانات مشابهة بينها وبين واقع ما حدث أمامي، وليس معي والحمد لله، فأسقطتها عليه، وليس بالضرورة أن تكون مطابقة لها بحذافيرها، فما يجري مع كل منا في الحياة قد يشابه الحكاية من زاوية أو أخرى، وأتمنى ألا تصادفي أمثال هذه الأطباع يومًا....
          التعديل الأخير تم بواسطة RHajjar; الساعة 05-07-2010, 11:22 PM.

          تعليق

          • ahmed_allaithy
            رئيس الجمعية
            • May 2006
            • 4026

            #6
            الأخت الفاضلة الدكتورة رود
            أم خنور هي أنثى الضبع.
            =============
            الأخت الفاضلة الأستاذة آية
            الحمد لله أنك لم تمري بمواقف كتلك؛ فهذه نعمة كبيرة.

            دمتما في طاعة الله.
            د. أحـمـد اللَّيثـي
            رئيس الجمعية الدولية لمترجمي العربية
            تلك الدَّارُ الآخرةُ نجعلُها للذين لا يُريدون عُلُوًّا فى الأَرضِ ولا فَسادا والعاقبةُ للمتقين.

            فَعِشْ لِلْخَيْرِ، إِنَّ الْخَيْرَ أَبْقَى ... وَذِكْرُ اللهِ أَدْعَى بِانْشِغَالِـي

            تعليق

            • Aya waheed
              weissherz
              • Jan 2010
              • 644

              #7
              الأستاذه الفاضلة الدكتورة رود... والأستاذ الفاضل الدكتور احمد... جزاكما الله كل خير فقد نبهتمونى إلى نعمة كدت أغفل عنها .... فالحمد لله الذى يجعل دائما فى طريقى الأخيار والصالحين
              [align=center]Ich bin verwirrt[/align]

              تعليق

              • محمد ميلاد ادريوش
                عضو منتسب
                • May 2010
                • 1

                #8
                السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
                أتساءل ! إذا أراد مترجم أن يترجم هذه القصة الجميلة, هل عليه ترجمتها إلى العربية أولا ؟!!!!؟

                تعليق

                • Aya waheed
                  weissherz
                  • Jan 2010
                  • 644

                  #9
                  سؤال يطرح نفسه!!!!
                  ليس فقط عليه أن يترجمها إلى العربية بل عليه أيضا أن يكون واعيا لثقافة الآخر الذى ينقل إليه النص .... فالترجمة ما هي إلى انتقال ونقل لتصل من الشاطئ الذى تقف عليه إلى الضفة الأخرى. مع مراعاة إبراز جماليات النص لكن بالطريقة التى يفهمها الآخر.
                  و أكرر الترجمة أصععععععب من الهندسة
                  و المترجم الناجح والمتميز لابد وان يكون على قدر عال من الثقافة
                  والله أعلم
                  [align=center]Ich bin verwirrt[/align]

                  تعليق

                  يعمل...