كَلْبٌ وَحِمَـارٌ
كَانَ فِي إِحْدَى الْغَابَاتِ كلبٌ هجينٌ، حِينَ يَعْلُو نباحُه يصبحُ أشبهَ بعواءِ الذِّئابِ، وحينَ يبتسمُ يبرزُ نابانِ كأنيابِ الثعالبِ. لا يعرفُ أحدٌ على وجهِ التحديدِ كيفَ تجمعَ فيهِ مِنْ كلِّ خصلةٍ دنيئةٍ طرفٌ، حَتَّى أنَّ حيواناتِ الغابةِ أخذتْ تتناقلُ عنهُ حكاياتٍ نسجتْها خيالاتُ القصَّاصين، أو دسَّتها عليْهِ ضغائنُ الكارهينَ. ومنها ما تصادفَ أنَّهُ حقٌّ صُراحٌ، ولكنَّ تَعَدُّدَ الرواياتِ، وتعارضَ الكثيرِ منها أَضْفَى عليها مِسْحَةً أسطوريةً. وَمِنْ ذَلِكَ أنَّهُ حين وُلد كانتْ إحْدَى عينيهِ مفتوحةً والأُخْرَى مغلقةً، وقبلَ أَن يَّتَمَكَّنَ من الْتِقَامِ ثَدْيِ أمِّه عضَّته حِرْبَاءٌ رَقْطَاءُ غرستْ نابَها في قلبِه فحملَ دمُه ريقَها إلى جميعِ جسدِه، وعافتْه أمُّه بعدَ يومٍ وليلةٍ، فامتنعتْ عن إرضاعِه؛ فتحوَّلَ عنها إلى أمِّ خنوصٍ لم يمر على ولادتِها الثانيةِ تسعةُ أيامٍ، ثم إلى أمِّ خنور وُلِدَت في محاقٍ، وحَمَلَتْ في بَدْرٍ، ووَلَدَتْ في خُسُوفٍ. ولكلِّ قصةٍ من تلك القصصِ دِلالَةٌ في عالمِ الحيوانِ. ونشأ الكلبُ قاسيَ القلبِ، داميَ النَّابِ، خبيثَ الطويَّةِ، مُتقلِّبَ المِزاجِ، متلونَ الأخلاقِ، تملؤهُ الشكوكُ والظنونُ، لا يستقرُّ له قرارٌ، في ليلٍ أو نهارٍ. إنْ رضيَ فَعَدُوُّهُ صديقٌ، وإنْ غَضِبَ عَمِيَتْ عيناهُ عن الحقِّ. لا يعرفُ الوفاءَ على غيرِ عادةِ الكلابِ، وينبشُ القبورَ على عادةِ الثعالبِ والذئابِ، ويأكلُ الجيفةَ على عادةِ الضِّبَاعِ، ويصادقُ الأراذلَ على عادةِ أهِلِ الدناءةِ، ويتبعُه الناعقونَ على عادةِ المتسلقِين ومحترفِي النفاقِ، وما أكثرَهم في عالمِ الحيوانِ!
وجاءتِ الحكاياتُ في فَمِ الغربانِ عما يفعلُه الكلبُ: فمرةً عضَّ رشأً، وأُخْرى نَهَشَ ريمًا، وثالثةً خَمَشَ أرنبةً، ورابعةً نَهَرَ تيسًا، وخامسةً زَجَرَ حَمَلاً، وسادسةً وَلَغَ في سُؤْدُدِ وَرْدٍ، وسابعةً شَتَمَ فَهْدًا، وثامنةً دَاسَ شبوةً، وتاسعةً قَنَصَ عدملةً، وعاشرةً بَالَ على شرغٍ. وفي إحِدَى الليالي نهشَ عسقلةً كانت من قبلُ أثيرةً عندَهُ بعد أنْ صدَّتْهُ عنها بعد تقرُّبٍ وغوايةٍ. وهكذَا دَوَالَيْك.
وكانت كلُّ دابةٍ تَتَأَذَّى تجلسُ تندبُ حظَّها في خُفُوتٍ تارةً، وفي عواءٍ تارةً أخرى. وفي يومٍ سَمِعَ محلاجٌ قصيرُ الذيلِ -نهيقُه أشدُّ من رَفْسِهِ- شكاةَ الدوابِّ؛ فأثارَ ما أَلَمَّ بهاَ في نفسِه نزعةَ عِرْقٍ من سفواءَ في أسلافِه اختلفتِ الأقوالُ في نسبِها وعَقِبِها. فذهبَ إلى الكلبِ في عقرِ دارِهِ، وأخذَ ينهقُ كالمطعونِ في شرفِه، فخرجَ له الكلبُ وَزَجَرَهُ بزمجرةٍ واحدةٍ فرَّ منها المحلاجُ لا يَلْوِي على شيءٍ وقد بلَّلَ سَاقَيْهُ، وَخَلَّفَ وراءَهُ أثرًا نَقَلَتْ خبرَهُ رِيحُ العَارِ.
ثُمَّ لَمْ يَلْبَثْ أَنْ عادَ في مُسوحِ الرُّهْبَانِ وعليه عَباءَةٌ من جِلْدِ حَمَلٍ، ورفعَ على طرفِ عصا -كانت من قبلُ ساقَ رَأْلٍ- عَلَمًا أبيضَ من ريشِ قُبَّرة وحمامةٍ تركَهُما المحلاجُ تصارعانِ البردَ بعد أن نُّتِفَ ريشُهُمَا، وأخذَ يصيحُ في حيواناتِ الغابةِ في قوةٍ وصلابةٍ إنَّه دَاعِي السَّلامِ، وناشرَ الحبِّ والوئامِ، وإن العفوَ عن الكلابِ والذئابِ، له جزيلُ الثوابِ. وقد حانَ الوقتُ كي تتصافى القلوبُ، وتتلاقى المشاربُ والدروبُ؛ فيمسحُ الأرنبُ على جراحِ الثعلبِ، ويعانقُ الفأرُ العقربَ، ويُطَبِّبُ القِطُّ ما نَكَأَهُ في قلبِ الْكَلْبِ، ويهدلُ الحمامُ، ويرفرفُ اليمامُ حاملاً أغصانَ الزيتونِ وأكاليلَ الغارِ، وتنعقدُ حفلاتُ الانتصارِ على النفوسِ الأمَّارةِ بالسوءِ؛ فالمحبةُ والسلامُ هما الطريقُ إلى الأمامِ، وَلْيَنْسَ الجميعُ الأحقادَ، وَيَدْفِنُوا مخاوفَهم في حَشَا الأكبادِ، وينهضُوا بعد طولِ رُقادٍ وقد غَسَلَ الحبُّ سخيمتَهم، وطهَّر الودُّ أرواحَهم.
وبيَّنَا بعضُ الحيواناتِ في صدمةٍ وذهولٍ، إذْ رَأَوُا الكلبَ يأتي لاهثًا وقد رَفَعَ رايةً كرايةِ المحلاجِ، ووقفَ في أولِ الصَّفِ ينتظرُ طابورَ المعتذرينَ، ويهزُّ ذيلَه في زَهْوِ الفاتحينَ.
فخرجتْ جوزلٌ بعدَ أنْ رأتْ غيابَ المستجيبينَ، وقالتْ للمحلاجِ: "لَوْلا أَنَّكَ حِمَاٌر، لقلتُ إنَّكَ تيْسٌ!"
وَتَقَدَّمَ في أَثَرِهَا هبعٌ فقالَ للكلبِ والمحلاجِ: "لَيْسَ لَكُمَا عِنْدِي غيرُ الْبَعْرِ."
فَنَهَرَهُمَا المحلاجُ في خُنُوعٍ وَتَصَنُّعٍ. وكَشَّرَ الكلبُ للجوزلِ عن أنيابِه، ثم استدارَ للمحلاجِ، وقالَ لَهُ: "لم يكنْ هذا ما اتَّفَقْنَا عليهِ."
فوضعَ المحلاجُ ذيلَه بين رِجْلَيْه وطأطأ رأسَه، ولسانُ حالِه يقولُ: "يا لكَ من أبْلَهٍ! هلْ كنتَ تتوقعُ المعجزاتِ من محلاجٍ؟!"
ثم بَرَزَ لِلْكَلْبِ كُمَيْتُ، وقالَ لَهُ: "ما أنتَ إلا كلبٌ غَرَّهُ حمارٌ." ثمَّ تمثَّلَ: "ضَلَّ مَنْ كَانتِ الْعِمْيَانُ تَهْدِيهِ."
فزمجرَ الكلبُ ثانيةً، وَمَضَى وَهُوَ يَلْهَثُ ويُزْبِدُ بعدَ أنْ مَرَشَ المحلاجَ في دُبُرِهِ، وهُوَ يقولُ: "سَتَرَوْنَ بَأْسِي، وستسمعونَ عوائِي، ما بقيَ فيَّ عِرْقٌ ينبضُ."
فَقَالَ المحلاجُ: "خَلَقَنِي رَبِّي حِمَارًا، وَالآنَ عَرَفْتُ السَّبَبَ."
وَمُنْذُ ذَلِكَ الْيَوْمِ أَدْرَكَ الْكَلْبُ -وَكُلُّ كَلْبٍ بَعْدَهُ- أَنَّ مِحْلاَجًا واحِدًا لاَ يَكْفِي –حَتَّى فِي عَالَمِ الدَّوابِ- لِتَحْقِيقِ السِّيَادَةِ الِّتِي تَحْتَاجُ إِلَى أَكْثَرَ مِنْ مِحْلاَجٍ، يُؤَدِّي كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ دَوْرًا إِلَى حِينٍ، يُمَهِّدُ بِهِ لِلْكَلْبِ طَرِيقَهُ، وَحِينَ يَبْلُغُ الْمِحْلاَجُ الْقَنْطَرَةَ يَتَنَحَّى لِيَحِلَّ مَحَلَّهُ غَيْرُهُ. وَلِذَا لاَ تَعْجَبْ حِينَ تَرَى الْكِلاَبَ الْهُجْنَ فِي صُحْبَةِ الْمَحَالِيجِ.
تعليق