الحروف العبرية تفتك بآرامية معلولا
جهينة- ديمه داوودي:
رغم المشوار الطويل لمشكلة الحرف المربع في معلولا، إلا أن "جهينة" كانت السباقة في كشف تفاصيل لم تكشف بعد، فها نحن نسلط الضوء على المشكلة من جذورها حتى الفروع بعيداً عن التملق أو التستر ليظل الخبر اليقين عند جهينة..
من المعروف أن لغة سورية القديمة خلال الألفين الثاني والأول قبل ميلاد السيد المسيح هي اللغة الآرامية، وقد استمرت هذه اللغة في القرون الميلادية الأولى وتفرعت إلى لهجات منها السريانية التي تحدث بها معظم الشعب السوري...
واستمرت اللغة الآرامية -كلغة كلام غير مكتوبة- إلى وقتنا هذا في قرى سوريّة الثلاث معلولا، بخعة (صرخة)، وجبعدين، وسبب استمرار هذه اللغة في القرى المذكورة هو أنها كانت محصنة ومعزولة عن المدن لطبيعتها الجبلية القاسية وظروفها التاريخية، بالإضافة إلى أن معلولا احتضنت المسيحية الأولى، فساهم رجال الدين المسيحي في الحفاظ على اللغة الآرامية كلغة تخاطب وصلوات – ولاسيما أنها كانت لغة السيد المسيح-، ومعظم سكان هذه القرى ما زالوا يتحدثون بلسان آرامي دون إجادة الكتابة بهذه اللغة القديمة، كما أنه لا يوجد حتى تاريخه أي نقش مسطور بالآرامية في معلولا.
ولكن، تحتوي المتاحف السورية على نماذج من الكتابات الآرامية عُثر عليها في مواقع مختلفة من القطر، كالجزيرة السورية وحلب وحماة وإدلب، وقد تمت هذه الكتابات بواسطة ما نسمّيه الحرف الآرامي السوري القديم، وأبجديته واضحة جداً على النقوش الموجودة، وهي مشتقة من الأبجدية الكنعانية التي انتشرت في المنطقة في أواخر الألف الثاني قبل الميلاد، كما يوجد تشابه كبير بين اللغات الكنعانية والآرامية والعربية من حيث جذور الأفعال والكلمات والقواعد والمصطلحات، فهذه اللغات تنتمي إلى عائلة لغوية واحدة هي عائلة اللغات الشرقية القديمة (ويسمّونها خطأ السامية)!!
من إحياء اللغة الآرامية
إلى استخدام الحرف العبري (المربع)
ارتأى بعض أهالي معلولا ضرورة إحياء اللغة الآرامية في القرية، وذلك بتأسيس معهد اللغة الآرامية في معلولا، لتدريس هذه اللغة نطقاً وكتابة... وكان من الأجدر بالمسؤولين عن المعهد اعتماد الحرف الآرامي السوري القديم لتدريس اللغة، أو على الأقل الحرف السرياني الشهير، أو حتى التدمري أو النبطي أو العربي، ذلك أن الحروف العربية تستوعب كل لغات سورية القديمة، إلا أنهم –أي المسؤولين في معهد معلولا وجامعة دمشق- اختاروا ما سمّوه بالحرف المربّع (العبري)، وكتبوا به منهاج اللغة الآرامية (كتاب من تأليف جورج رزق الله) وشرعوا بتدريسه ن المعهد.
ويجدر بالذكر أن العديد من أهالي معلولا مستاءٌ مما يجري في المعهد ومن استخدام الحروف المذكورة، ونؤكد أن المنهاج الذي يتم تدريسه للتلاميذ يحتوي على كلمات بذيئة، ويسيء نوعاً ما للكنيسة ورجالها، كمثال ورد في الكتاب عن مثل قديم (الكنيسة معتمة والخوري أعمى وما بيشوف "بمعنى أنو الطاسة ضايعة") وغيرها الكثير من الألفاظ التي لا يصح حتى ذكرها في كتاب تعليمي، ومن الجدير بذكره أيضاً أن الدكتور عصام فرنسيس تقدّم إلى السيد رئيس جامعة دمشق بكتاب مطوّل يشرح فيه جملة العبارات والألفاظ البذيئة والمسيئة والخاطئة لغوياً ولفظياً الواردة في منهاج التعليم المذكور، وذلك دون أن يلقى الموضوع العلاج المناسب حتى وقتنا الحالي.
ملابسات ورشات العمل...
والحرف المربع مازال قائماً..؟
تم طرح إشكالية الحرف المربع العبري من خلال ورشة عمل اللغة الآرامية التي أُقيمت في المعهد العالي للغات بجامعة دمشق في 9/4/2009، وصدرت عن الورشة توصيات بضرورة تغيير الحروف المعتمدة في تدريس الآرامية بمعلولا، ولكن متى؟؟؟
وهنا نشير إلى خطورة انتشار هذه الحروف تدريجياً وانطلاقاً من معلولا وبحجة اللغة الآرامية، فلم تقتصر تلك الحروف على التدريس في معلولا بل هي توشم على أذرع الشباب وتنتشر تدريجياً على أساس خدعة الحرف الآرامي، كما أن مظاهر النشر التدريجي واضحة، وإحياء اللغات القديمة لا يتم بهذه الطرق، والعملية قد تنطوي مستقبلاً على إعطاء حجة لليهود للحديث عن وجود كيان سابق لهم في المنطقة، بالاضافة إلى خطورة محاولة طمس التراث الآرامي السوري الأصلي، باستغلال التشابه بين "العبرية" والآرامية... "فالعبرية" أصلاً مقتبسة من الكنعانية باعتراف التوراة، وتم تطويرها عبر العصور بوضع الحركات من قبل أحبار اليهود، فلماذا المغامرة بنفس الحروف في معلولا، وإثارة الاستفهام والالتباس وتوفير الذرائع، رغم وجود الحرف الآرامي السوري الأصلي؟! خصوصاً وأن بعض السياح يصدمهم وجود هذا الحرف المربع لثقتهم أنه حرف عبري ويفتح لهم باب التساؤل التاريخي والسياسي عن وجود سابق للكيان الاسرائيلي في منطقة معلولا مما يخالف كل تاريخنا وعقائدنا !!.
دورة التحقيقات للحرف العبري
بمصداقية "جهينة" الخاصة
على الرغم من الكتابات الصحفية التي سبقت هذا التحقيق، إلا أننا في "جهينة" استطعنا أن نحصل على معلومات ووثائق تفرض علينا أن نسلط الضوء بشكل واسع ومعمق على هذا الموضوع، وذلك خلال لقائنا الدكتور إبراهيم خلايلي –مدير متحف دمشق التاريخي، والمختص بتاريخ الشرق القديم وآثاره-والذي أكّد لنا أن ما يسمونه بـِ"الحرف المربع" والمستخدم حتى تاريخه في تعليم آرامية معلولا، هو خطأ أكاديمي ولا يجب أن يتحول إلى خطأ قومي... فالخطأ الأكاديمي –حسب الدكتور خلايلي- هو خطأ الجهة العلمية التي صادقت على كتاب التعليم ووضعت شعارها العلمي عليه، وتابع قائلاً: بالعودة سنوات إلى الوراء نجد أن جلّ أساتذة اللغات السورية القديمة في الجامعة قد تخرّج في جامعات ومعاهد أوروبية وتتلمذ على أيدي مستشرقين يتقنون عبرية التوراة ويعتمدونها كلغة مقارنة وفهم وتفسير لمفردات اللغات السورية القديمة ومصطلحاتها، وذلك من باب أن عبرية التوراة تحمل تشابهاً مع تلك اللغات، ولعل الطريقة نفسها متّبعةٌ في مؤلفات الجامعة نسجاً على منوال"ديوان النقائـش السـامية" (Corpus Inscriptionum Semiticarum)=(CIS) وكتاب دونر وروليغ: (Kanaanaische und Aramaische Inschriften)=((KAI وغيرهما من المؤلفات والقواميس التي لا تغفل –كبعض المؤلفات الناقلة عنها- إبراز الحروف الأصلية..
ويضيف الدكتور خلايلي قائلاً: الطامة الكبرى –ولا يمكن وصفها بأقل من ذلك- هي أن جلّ المؤلفات المحلية يستخدم الحرف العبري للتعبير عن الآرامية، والكنعانية الأوغاريتية المسمارية الأبجدية، والكنعانية الفينيقية، والبونية والبونية العامية(شمال إفريقيا وغرب المتوسط) دون التنويه إلى عملية "النقحرة" (أي نقل حروف لغة إلى لغة أخرى)، ويزيد على ذلك أحياناً بإعطاء المقابل أو المرادف "العبري" –كما تسمّيه تلك المؤلفات- للكلمة الأصلية، وبالتأكيد فالمرادف العبري مكتوب بالحروف العبرية أي تماماً كما كُتب ما رادفه من كلمات بلغات أخرى كنعانية فينيقية أو بونية...! فأي قانون للترادف هذا؟؟!! وأي منهج علمي يسوق هذه الأمثلة؟!... وهل يخرج الطالب الجامعي بموجب ذلك بنتيجة مفادها أن الحروف العبرية هي المعبّر الوحيد عن اللغات السورية القديمة؟! من يتحمّل هذه المسؤولية وحروفنا الأصلية – من آرامية قديمة ونبطية وتدمرية وسريانية وعربية قديمة- تملأ متاحفنا ومواقعنا الأثرية؟؟
من جهة أخرى- يضيف الدكتور خلايلي- أن جامعة دمشق –وبعدها جامعات القطر- تدرّس اللغة العبرية –وهذا ضروري- منذ الخمسينات من القرن الماضي وحتى تاريخه كلغة عبرية مستقلة بقواعدها وصرفها ونحوها ومفرداتها وحركاتها وحروفها التي ما زلنا نشاهدها إلى اليوم-مع الأسف- في معلولا وفي كتب اللغات الآرامية والكنعانية الفينيقية في الجامعة... وهذه العبرية هي ذاتها التي نشاهدها في وسائل الإعلام الإسرائيلية والمطبوعات الرسمية في الكيان المحتل ونسخة التوراة العبرية والتلمود... وإذا شاء المصادقون على تعليم الآرامية بالحرف العبري الاستمرار في الجدل، فعليهم أن يعتذروا من آلاف الخرّيجين في أقسام التاريخ واللغة العربية والآثار والإعلام ويقولوا لهم إننا آسفون.. كنا ندرّسكم العبرية في الجامعة خلال خمسين عاماً، ولكن ثبت أنها آرامية بعد انطلاق الدروس في معهد معلولا!!! وليثبتوا- بعد اعتذارهم- وجود ولو نص آرامي واحد مسطور بالحروف العبرية سواء في سورية أو فلسطين أو لبنان أو العراق أو الأردن، أو حتى في الهند وإسبانيا –حسب تعبير الدكتور خلايلي- الذي تابع بالقول: إن الحرف المربع تسمية خجولة وقد يدور حديث مفكك مزعزع مجدداً – كما دار سابقاً- حول وجود نسخة من الكتاب المقدس مكتوبة بالحروف "المربعة" – تلك التسمية التبريرية الخجولة- والحق يقال- إن هذه النسخة موجودة فعلاً ولكن كنسخة عبرية، فالكتاب المقدس تُرجم إلى العبرية والحبشية والأرمنية واليونانية واللاتينية والسريانية والعربية وجلّ اللغات الحية، ولا وجود لنسخة آرامية من الكتاب المقدس مكتوبة بالحروف "العبرية".
استخدام الحرف المربع العبري خطأ قومي
ولدى سؤالنا الدكتور خلايلي عن الخطأ القومي في استخدام الحروف العبرية في معلولا، قال إنه كامن في الاستمرار بالخطأ الأكاديمي الذي يساهم في التأسيس لمرحلة قد لا نشهدها، وقد لا تدرك فيها أجيالنا القادمة تفاصيل الخطأ... وبهذه الحالة فالتراث الآرامي مهدد، إذْ أن تدريس الآرامية في معلولا انطلق واستمر بالحروف العبرية -ثم الترويج المفزع لهذه الحروف- بواسطة الجهل المفاجئ والمضَلِّل...
وعلى المستمرين في هذا النهج –بعد الاعتراض الرسمي عليه في ورشة عمل اللغة الآرامية في الجامعة- تحمُّل مسؤولية إقصاء الحروف الآرامية الأصلية من التعليم وعملية الإحياء، فما ناله معهد معلولا من دعم بعض الفعاليات الاقتصادية والاجتماعية في المدينة، كان فرصة رائعة لإحياء الحروف الآرامية الأصلية ولاسيما أن التراث الآرامي -ومعه الكنعاني- برمته –كجزء من تراث الشرق القديم- مهدد فعلياً وعلى أرض الواقع من قبل الدوائر التوراتية كما يرى الدكتور خلايلي.
وحول تاريخ "العبرية" المستخدمة في معهد معلولا أفادنا الباحث خلايلي أن الحروف العبرية المستخدمة في معهد معلولا تنتمي إلى العبرية التي بدأت تأخذ شكلها النهائي في نهاية القرن الثامن الميلادي، وانطلاقاً من هذه الفترة قام لغويون ونُحاة يهود في الأندلس وبعض البلدان الأخرى بوضع القواعد النهائية للغة العبرية ومن هؤلاء اللغويين سعيد بن يوسف الفيومي ومناحيم بن سروق ودوناش بن لبراط ويهودا بن داود وشلومو بن جبيريل وابراهام بن عزرا وموسى بن عزرا... وكانت نسخة القرن العاشر الميلادي من كتاب التوراة نسخة بالعبرية الحديثة ذات الحركات التي بدأ بوضعها أحبار اليهود... وبعد تسعة قرون تقريباً، قام إليعيزر بن يهودا وشالوم ابراموفيتس وشالوم رابينوفيتس بوضع لمسات جديدة على العبرية الحديثة التي شهدت تطورات في القرن العشرين تتلخص في انتشار عبرية "الإيديش" وهي عبرية تخصّ يهود الغرب من أميركيين وألمان وبولونيين، ويُخشى تسرّب بعض نحوها ولفظها إلى معهد معلولا بواسطة كتابه التعليمي، وخاصة فيما يتعلّق بأسماء المدن والقرى...
في برنامج مدارات الذي يعدّه الإعلامي نضال زغبور وناقشت إحدى حلقاته الموضوع ذاته أعرب د. محمد محفل عن عدم إمكانية استبدال "الحروف العبرية" في معهد معلولا بالحروف الآرامية الأصلية المسطورة على تمثال الملك الآرامي السوري "هديسعي"
وكانت الحجة أن حروف هديسعي غير مشكولة بحركات!... وكنا قد أكدنا سابقاً –على ألسنة المختصين- أن حركات العبرية المستخدمة في معهد معلولا هي خطأ كبير –إضافة إلى خطأ اختيار الحروف- إذ لا يجوز استخدام قواعد العبرية في تعليم لفظ اللغة الآرامية، وهنا نوّه الدكتور خلايلي إلى القاعدة اللغوية التي يجب أن يعرفها اللغويون، وهي أنه إذا ما انتقلت قواعد لغة ما إلى لغة أخرى كان هذا الاقتباس نذيراً بفناء اللغة المقتبِسة واندماجها في اللغة المقتَبَس منها...
وأخيراً، فإن الخطوط الآرامية الأصلية السورية –بالإضافة إلى العربية الأم- متوفرة في التركة الأثرية السورية، وقد تم إقصاؤها من معهد معلولا لصالح الحرف ذي الشبهة والالتباس.
وباعتباره المعترض الرسمي على استخدام الحروف العبرية في معلولا، توجهنا بسؤال إلى الدكتور خلايلي حول مقترحات خاصة بمعهد اللغة الآرامية في معلولا لوضع حد للخطأ المستمر، فأجاب إنه تقدّم بطلب رسمي إلى مديرية الآثار والمتاحف -التي يعمل لديها منذ ست سنوات- وقد أورد في هذا الطلب أن عملية "إحياء" اللغة الآرامية القديمة قد خرجت عن إطار "الإحياء" لتتخذ شكل ترويج للحروف العبرية في معلولا -وبشكل ظاهر وتدريجي-، فاقترح إزالة كافة الكتابات بالحروف العبرية في معلولا والتي ظهرت حتى الآن في لافتة معهد اللغة الآرامية، وواجهة جامع المجد، ومقام التوبة للسيدة العذراء، وشواهد بعض القبور الحديثة، ومطوية سياحية خاصة بمعلولا يتم توزيعها في الأكشاك، وعلى أيدي بعض الشبّان بطريقة الوشم.
وبخصوص تدريس اللغة، اقترح الدكتور خلايلي تجميد التدريس في المعهد مدة ستة شهور ريثما يتم الاتفاق على تشكيل لجنة علمية لوضع منهاج أولي يتم من خلاله تدارك الخطأ الكامن في استخدام الحرف العبري، والعمل على استبداله بالحرف الآرامي الأصلي، وتقديم دروس نظرية حول تاريخ اللغة الآرامية كلغة سورية قديمة...
وبخصوص إنهاء الجدل حول الحروف الواجب استخدامها في إحياء اللغة الآرامية، تم الاقتراح بإقامة ندوات خاصة بالموضوع بالتنسيق بين الجهات العلمية المختصة... وبهذا الخصوص أشار الدكتور خلايلي إلى إشكاليات ذات صلة هامة بالموضوع مثل بعض مؤلفات الجامعة التي تشير بشكل مؤسف إلى عبارات مثل "الآرامية اليهودية" و"آرامية التوراة"، وهي عبارات مساوية في خطورتها لعبارة "الإسرائيليين القدماء" الذين يتحدّث أحد المؤلفات الجامعية المذكورة عن قدومهم إلى فلسطين!!!والملاحظة هنا – كما يبديها الباحث الخلايلي- هي كيف يمرّر المؤلف هذه المعلومة الغريبة للقرّاء ؟! إذْ لا توجد أية وثيقة قديمة تؤكّد وجود "إسرائيليين قدماء"، حتى كتاب العهد القديم (التوراة) ينفي هذه المعلومة ويشير فقط إلى مهاجرين إلى أرض كنعان – ولا يسمّيهم إسرائيليين، أُطلق على أحدهم ـ وهو يعقوب ـ اسم "إسرائيل" بموجب رواية خرافية لكاتب سِفر التكوين ـ السِّفر الأول في التوراة ـ على أن الحديث عن هذه الرواية الخرافية يتم دائماً في "ضوء العهد القديم"، و هو لا يدعو إلى إطلاق عبارة "الإسرائيليين القدماء" على من ورد ذكرهم في التوراة والإنجيل والقرآن الكريم بصيغة "بني إسرائيل"، وبين العبارتين ـ أي "الإسرائيليين القدماء" و"بني إسرائيل" ـ فرقٌ كبير، فالأولى تنطوي على خطأ كبير لأنها تربط الإسرائيليين الحاليين بـ "قدماء" لهم على شكل شعب تاريخي ـ وهذا ما تسعى إليه الدوائر التوراتية ـ ولكن في ضوء العهد القديم (التوراة)، لا يبدو "بنو إسرائيل" شعباً، ذلك أن كلمة "شعب" في علم التاريخ لا تُطلق إلاّ على من يحقق شروطاً معينة مثل الجذور والأصول واللغة والمنجزات الحضارية والدولة والتقاليد والاستمرارية، وكلها شروط لا تتوفر لبني "إسرائيل"... هذا فضلاً عن أن الواقع الأثري في المنطقة لا يقدم شيئاً بخصوص أولئك القوم.
ومن الأمثلة التي ساقها الدكتور خلايلي، دراسة تحمل عنوان "حول أصل الاسم سورية" منشورة في التسعينات في مجلة جامعية محلية محكمة، وفيها حاول أحد الباحثين من جامعة حلب تفنيد مزاعم أحد المستشرقين الذين ربطوا بين الاسم "سوريا" و"صور" زاعماً أن الأصلَ عبريٌّ للاسم باعتبار الزعم القائل بأن "صور" كلمة عبرية بمعنى الصخرة... وفي تفنيده لهذا الزعم تحدث الباحث قائلاً:"كلمة صور ليست عبرية فحسب، وإنما من الكلمات التي تشترك فيها عدة لغات سامية قديمة"!...
والباحث المذكور –حسبما قال الدكتور خلايلي- لم يفنّد الزعم السابق بل عاد وأكّد عبرية الاسم بتأكيده عبرية الاسم "صور"...!!!... هو ربما أخطأ في الصياغة اللغوية... ومع ذلك كان عليه أن يشرح خطأ نسب اسم صور إلى العبرية، فهذا الاسم كنعاني الأصل ووارد في النقوش الكنعانية الفينيقية السابقة لنصوص التوراة العبرية، أما ورود أي اسم كنعاني باللغة العبرية فلا يعني عبرية هذا الاسم، كما لا يعني اشتراك هذه التسمية مع باقي التسميات في لغات أخرى.
التسميات العبرية إلى متى ؟؟
و"لعبة التسميات العبرية" يختصّ بها الكيان الاسرائيلي، فهو يلجأ إلى إطلاق "أسماء عبرية" على المناطق التي يحتلها، ولهذه المناطق تاريخ كنعاني وآرامي أصيل، ومن ضمن هذا التاريخ الأسماء الكنعانية الأصلية التي ترد بالعبرية التوراتية (الكنعانية المقتَبَسة)، وورودها بالعبرية التوراتية أو الحديثة لا ينفي الأصل الكنعاني...
وفي إطار الجدل الدائر حول استخدام الحروف العبرية في معلولا التقينا السيد جورج زعرور من أبناء معلولا والباحث في لغتها الآرامية، فاختار الحديث والتعليق على حلقة مدارات التي بثّتها الفضائية السورية مساء يوم 17/8/2009، وواضعاً الحلقة تحت عنوان "كلمات أسقطت الأقنعة"... قائلاً: رغم الحوار القصير الذي دار بين الدكتور إبراهيم خلايلي من جهة وبين الدكتور محمد محفل وأ.جورج رزق الله من جهة أخرى في حلقة مدارات والتي لم تكن كغيرها من الحلقات السابقة، بسبب التخطيط المسبق لها، والذي انطوى على تغييب أصوات إضافية لصالح الحقيقة، فقد كانت مجريات الحلقة كالتالي كما لاحظتُ –والكلام للسيد جورج زعرور:
1-استهل الدكتور محفل الكلام بما سمّاه "القلم الآرامي المربع" والذي يتم تدريسه في جامعة دمشق...وما إن قدّم الدكتور خلايلي مداخلته الهامة في هذا الموضوع، حتى استل الدكتور محفل –بعصبية- كتابه الجامعي "اللغة الآرامية" قائلاً: "لقد ألّفت هذا الكتاب منذ أربعين عاماً، وجامعة دمشق هي التي أخذته مني واعتمَدَتْهُ كمقرر دراسي دون أن يكون لي علم بذلك..."
وبرأيي، فهذا التخلّي السريع عن الكتاب، وتحميل الجامعة مسؤوليته، يعتبر سقوطاً لأول قناع...
2- حين سُئل أ.جورج رزق الله عن "آرامية معلولا" أجاب باقتضاب: "اللغة التي نتكلّمها تناقلناها عن الآباء والأجداد ولا نعرف من أين أتت"...!!!...ثم قال: "اللغة الآرامية لغة زراعة"...و"معلولا بعيدة عن الحضارة..."...!...
وهنا لا بد من التعليق، إذْ كيف يُسمَّى مديرٌ لمعهد اللغة الآرامية لا يعرف من أين أتت هذه اللغة؟!!...وكيف يُسند هذا المنصب العلمي المرموق لمن لا يمتلك مخزوناً تاريخياً لغوياً يمكّنه من الحديث عن اللغة الآرامية؟...وكيف يقول إن الآرامية لغة زراعة فحسب، وهي اللغة التي دوّنت بها الامبراطوريات سجلاّتها الانسانية ومآثرها الأدبية؟... بالحروف ذاتها الموجودة على تمثال "هديسعي".
وكيف يدّعي أ.جورج رزق الله أن معلولا بعيدة عن الحضارة، وهي محمية حضارية أثرية تاريخية بكل معنى الكلمة، شهدت حضارات ما قبل التاريخ وحضارات الكنعانيين والآراميين والمسيحيين الأوائل...وما زالت حتى اليوم تنبض حضارةً ولغةً قديمةً أصيلة.
3- خلال الحلقة المذكورة أعلن الدكتور محفل بانفعال أنه سيطلب مختصين بالآرامية من الخارج ليثبت وجود دخلاء على اللغة الآرامية، فهل تخلّى الدكتور محفل عن الكوادر الوطنية في هذا المجال؟ وهل يعتبر الباحثين الأصلاء في الحضارة الآرامية، ومعهم من احتفظ باللسان الآرامي أباً عن جد، دخلاء على لغة الآباء والأجداد أمام المختصين الأجانب؟!.
وختاماً، فمن الضروري إيجاد صيغة رسمية للتعامل مع الموضوع من خلال إدارة موحدة له، فالمعهد تم إلحاقه إدارياً بالمعهد العالي للغات التابع لجامعة دمشق، وأهم ما قدّمته الجامعة لمعهد معلولا هو ورشة عمل اللغة الآرامية التي انعقدت في 9/4/2009، وخرجت هذه الورشة بتوصيات أهمها ضرورة تغيير الحرف المستخدم في تعليم الآرامية، لكن إجراءات ذلك لم تتخذ فعلياً على الأرض وما زال التعليم بالحرف العبري مستمراً حتى تاريخه، علماً أن الجامعة –كما ذكرنا- تتّّبع الأسلوب نفسه في تدريس اللغات السورية القديمة، وذلك باستخدام الحروف العبرية رغم وجود الأبجديات السورية الأصلية.
يؤكد الدكتور بهجت القبيسي أستاذ الكنعانية والآرامية في عدة جامعات أن الحرف المربع سمّي بالحرف الآرامي زوراً كي يجد اليهود لنفسهم صلة بالآرامية حيث لا يوجد أي نقش لما يسمونه زوراً الآرامي المربع، فالحرف الذي يدرّس في معهد معلولا لتعليم اللغة الآرامية هو حرف عبري بالتأكيد، ومن المعروف أن الدكتور محمد محفل درس آرامية التوراة بالحرف العبري فلماذا يستخدم المعهد هذا الحرف المربع؟ "الحرف العبري" الذي وجد في القرن الثالث الميلادي وليس له أي علاقة بالآرامية والبدائل الآرامية الحقيقية موجودة، فلماذا لا يتم استخدامها وإحياؤها كما هو مفترض؟.
يستغرب د. إبراهيم خلايلي لفظ كلمة (جبعدين) بـ (جيفعود) من قبل الأستاذ جورج رزق الله (مؤلف كتاب المدخل إلى اللغة الآرامية في لهجة معلولا المحلية) أي أنه استبدل الباء الآرامية بالفاء العبرية وهي اللفظ العبري الحديث، بينما يجب أن تلفظ في الآرامية بـ (غوبّّّّّّّّّّّّاعود) فإن كان اللفظ أساساً غير سليم واختيار الحرف غير صحيح فإلى أي مدى يغيب تاريخنا الآرامي الحقيقي وسط غفوات يجب تصحيحها فوراً؟.
جهينة- ديمه داوودي:
رغم المشوار الطويل لمشكلة الحرف المربع في معلولا، إلا أن "جهينة" كانت السباقة في كشف تفاصيل لم تكشف بعد، فها نحن نسلط الضوء على المشكلة من جذورها حتى الفروع بعيداً عن التملق أو التستر ليظل الخبر اليقين عند جهينة..
من المعروف أن لغة سورية القديمة خلال الألفين الثاني والأول قبل ميلاد السيد المسيح هي اللغة الآرامية، وقد استمرت هذه اللغة في القرون الميلادية الأولى وتفرعت إلى لهجات منها السريانية التي تحدث بها معظم الشعب السوري...
واستمرت اللغة الآرامية -كلغة كلام غير مكتوبة- إلى وقتنا هذا في قرى سوريّة الثلاث معلولا، بخعة (صرخة)، وجبعدين، وسبب استمرار هذه اللغة في القرى المذكورة هو أنها كانت محصنة ومعزولة عن المدن لطبيعتها الجبلية القاسية وظروفها التاريخية، بالإضافة إلى أن معلولا احتضنت المسيحية الأولى، فساهم رجال الدين المسيحي في الحفاظ على اللغة الآرامية كلغة تخاطب وصلوات – ولاسيما أنها كانت لغة السيد المسيح-، ومعظم سكان هذه القرى ما زالوا يتحدثون بلسان آرامي دون إجادة الكتابة بهذه اللغة القديمة، كما أنه لا يوجد حتى تاريخه أي نقش مسطور بالآرامية في معلولا.
ولكن، تحتوي المتاحف السورية على نماذج من الكتابات الآرامية عُثر عليها في مواقع مختلفة من القطر، كالجزيرة السورية وحلب وحماة وإدلب، وقد تمت هذه الكتابات بواسطة ما نسمّيه الحرف الآرامي السوري القديم، وأبجديته واضحة جداً على النقوش الموجودة، وهي مشتقة من الأبجدية الكنعانية التي انتشرت في المنطقة في أواخر الألف الثاني قبل الميلاد، كما يوجد تشابه كبير بين اللغات الكنعانية والآرامية والعربية من حيث جذور الأفعال والكلمات والقواعد والمصطلحات، فهذه اللغات تنتمي إلى عائلة لغوية واحدة هي عائلة اللغات الشرقية القديمة (ويسمّونها خطأ السامية)!!
من إحياء اللغة الآرامية
إلى استخدام الحرف العبري (المربع)
ارتأى بعض أهالي معلولا ضرورة إحياء اللغة الآرامية في القرية، وذلك بتأسيس معهد اللغة الآرامية في معلولا، لتدريس هذه اللغة نطقاً وكتابة... وكان من الأجدر بالمسؤولين عن المعهد اعتماد الحرف الآرامي السوري القديم لتدريس اللغة، أو على الأقل الحرف السرياني الشهير، أو حتى التدمري أو النبطي أو العربي، ذلك أن الحروف العربية تستوعب كل لغات سورية القديمة، إلا أنهم –أي المسؤولين في معهد معلولا وجامعة دمشق- اختاروا ما سمّوه بالحرف المربّع (العبري)، وكتبوا به منهاج اللغة الآرامية (كتاب من تأليف جورج رزق الله) وشرعوا بتدريسه ن المعهد.
ويجدر بالذكر أن العديد من أهالي معلولا مستاءٌ مما يجري في المعهد ومن استخدام الحروف المذكورة، ونؤكد أن المنهاج الذي يتم تدريسه للتلاميذ يحتوي على كلمات بذيئة، ويسيء نوعاً ما للكنيسة ورجالها، كمثال ورد في الكتاب عن مثل قديم (الكنيسة معتمة والخوري أعمى وما بيشوف "بمعنى أنو الطاسة ضايعة") وغيرها الكثير من الألفاظ التي لا يصح حتى ذكرها في كتاب تعليمي، ومن الجدير بذكره أيضاً أن الدكتور عصام فرنسيس تقدّم إلى السيد رئيس جامعة دمشق بكتاب مطوّل يشرح فيه جملة العبارات والألفاظ البذيئة والمسيئة والخاطئة لغوياً ولفظياً الواردة في منهاج التعليم المذكور، وذلك دون أن يلقى الموضوع العلاج المناسب حتى وقتنا الحالي.
ملابسات ورشات العمل...
والحرف المربع مازال قائماً..؟
تم طرح إشكالية الحرف المربع العبري من خلال ورشة عمل اللغة الآرامية التي أُقيمت في المعهد العالي للغات بجامعة دمشق في 9/4/2009، وصدرت عن الورشة توصيات بضرورة تغيير الحروف المعتمدة في تدريس الآرامية بمعلولا، ولكن متى؟؟؟
وهنا نشير إلى خطورة انتشار هذه الحروف تدريجياً وانطلاقاً من معلولا وبحجة اللغة الآرامية، فلم تقتصر تلك الحروف على التدريس في معلولا بل هي توشم على أذرع الشباب وتنتشر تدريجياً على أساس خدعة الحرف الآرامي، كما أن مظاهر النشر التدريجي واضحة، وإحياء اللغات القديمة لا يتم بهذه الطرق، والعملية قد تنطوي مستقبلاً على إعطاء حجة لليهود للحديث عن وجود كيان سابق لهم في المنطقة، بالاضافة إلى خطورة محاولة طمس التراث الآرامي السوري الأصلي، باستغلال التشابه بين "العبرية" والآرامية... "فالعبرية" أصلاً مقتبسة من الكنعانية باعتراف التوراة، وتم تطويرها عبر العصور بوضع الحركات من قبل أحبار اليهود، فلماذا المغامرة بنفس الحروف في معلولا، وإثارة الاستفهام والالتباس وتوفير الذرائع، رغم وجود الحرف الآرامي السوري الأصلي؟! خصوصاً وأن بعض السياح يصدمهم وجود هذا الحرف المربع لثقتهم أنه حرف عبري ويفتح لهم باب التساؤل التاريخي والسياسي عن وجود سابق للكيان الاسرائيلي في منطقة معلولا مما يخالف كل تاريخنا وعقائدنا !!.
دورة التحقيقات للحرف العبري
بمصداقية "جهينة" الخاصة
على الرغم من الكتابات الصحفية التي سبقت هذا التحقيق، إلا أننا في "جهينة" استطعنا أن نحصل على معلومات ووثائق تفرض علينا أن نسلط الضوء بشكل واسع ومعمق على هذا الموضوع، وذلك خلال لقائنا الدكتور إبراهيم خلايلي –مدير متحف دمشق التاريخي، والمختص بتاريخ الشرق القديم وآثاره-والذي أكّد لنا أن ما يسمونه بـِ"الحرف المربع" والمستخدم حتى تاريخه في تعليم آرامية معلولا، هو خطأ أكاديمي ولا يجب أن يتحول إلى خطأ قومي... فالخطأ الأكاديمي –حسب الدكتور خلايلي- هو خطأ الجهة العلمية التي صادقت على كتاب التعليم ووضعت شعارها العلمي عليه، وتابع قائلاً: بالعودة سنوات إلى الوراء نجد أن جلّ أساتذة اللغات السورية القديمة في الجامعة قد تخرّج في جامعات ومعاهد أوروبية وتتلمذ على أيدي مستشرقين يتقنون عبرية التوراة ويعتمدونها كلغة مقارنة وفهم وتفسير لمفردات اللغات السورية القديمة ومصطلحاتها، وذلك من باب أن عبرية التوراة تحمل تشابهاً مع تلك اللغات، ولعل الطريقة نفسها متّبعةٌ في مؤلفات الجامعة نسجاً على منوال"ديوان النقائـش السـامية" (Corpus Inscriptionum Semiticarum)=(CIS) وكتاب دونر وروليغ: (Kanaanaische und Aramaische Inschriften)=((KAI وغيرهما من المؤلفات والقواميس التي لا تغفل –كبعض المؤلفات الناقلة عنها- إبراز الحروف الأصلية..
ويضيف الدكتور خلايلي قائلاً: الطامة الكبرى –ولا يمكن وصفها بأقل من ذلك- هي أن جلّ المؤلفات المحلية يستخدم الحرف العبري للتعبير عن الآرامية، والكنعانية الأوغاريتية المسمارية الأبجدية، والكنعانية الفينيقية، والبونية والبونية العامية(شمال إفريقيا وغرب المتوسط) دون التنويه إلى عملية "النقحرة" (أي نقل حروف لغة إلى لغة أخرى)، ويزيد على ذلك أحياناً بإعطاء المقابل أو المرادف "العبري" –كما تسمّيه تلك المؤلفات- للكلمة الأصلية، وبالتأكيد فالمرادف العبري مكتوب بالحروف العبرية أي تماماً كما كُتب ما رادفه من كلمات بلغات أخرى كنعانية فينيقية أو بونية...! فأي قانون للترادف هذا؟؟!! وأي منهج علمي يسوق هذه الأمثلة؟!... وهل يخرج الطالب الجامعي بموجب ذلك بنتيجة مفادها أن الحروف العبرية هي المعبّر الوحيد عن اللغات السورية القديمة؟! من يتحمّل هذه المسؤولية وحروفنا الأصلية – من آرامية قديمة ونبطية وتدمرية وسريانية وعربية قديمة- تملأ متاحفنا ومواقعنا الأثرية؟؟
من جهة أخرى- يضيف الدكتور خلايلي- أن جامعة دمشق –وبعدها جامعات القطر- تدرّس اللغة العبرية –وهذا ضروري- منذ الخمسينات من القرن الماضي وحتى تاريخه كلغة عبرية مستقلة بقواعدها وصرفها ونحوها ومفرداتها وحركاتها وحروفها التي ما زلنا نشاهدها إلى اليوم-مع الأسف- في معلولا وفي كتب اللغات الآرامية والكنعانية الفينيقية في الجامعة... وهذه العبرية هي ذاتها التي نشاهدها في وسائل الإعلام الإسرائيلية والمطبوعات الرسمية في الكيان المحتل ونسخة التوراة العبرية والتلمود... وإذا شاء المصادقون على تعليم الآرامية بالحرف العبري الاستمرار في الجدل، فعليهم أن يعتذروا من آلاف الخرّيجين في أقسام التاريخ واللغة العربية والآثار والإعلام ويقولوا لهم إننا آسفون.. كنا ندرّسكم العبرية في الجامعة خلال خمسين عاماً، ولكن ثبت أنها آرامية بعد انطلاق الدروس في معهد معلولا!!! وليثبتوا- بعد اعتذارهم- وجود ولو نص آرامي واحد مسطور بالحروف العبرية سواء في سورية أو فلسطين أو لبنان أو العراق أو الأردن، أو حتى في الهند وإسبانيا –حسب تعبير الدكتور خلايلي- الذي تابع بالقول: إن الحرف المربع تسمية خجولة وقد يدور حديث مفكك مزعزع مجدداً – كما دار سابقاً- حول وجود نسخة من الكتاب المقدس مكتوبة بالحروف "المربعة" – تلك التسمية التبريرية الخجولة- والحق يقال- إن هذه النسخة موجودة فعلاً ولكن كنسخة عبرية، فالكتاب المقدس تُرجم إلى العبرية والحبشية والأرمنية واليونانية واللاتينية والسريانية والعربية وجلّ اللغات الحية، ولا وجود لنسخة آرامية من الكتاب المقدس مكتوبة بالحروف "العبرية".
استخدام الحرف المربع العبري خطأ قومي
ولدى سؤالنا الدكتور خلايلي عن الخطأ القومي في استخدام الحروف العبرية في معلولا، قال إنه كامن في الاستمرار بالخطأ الأكاديمي الذي يساهم في التأسيس لمرحلة قد لا نشهدها، وقد لا تدرك فيها أجيالنا القادمة تفاصيل الخطأ... وبهذه الحالة فالتراث الآرامي مهدد، إذْ أن تدريس الآرامية في معلولا انطلق واستمر بالحروف العبرية -ثم الترويج المفزع لهذه الحروف- بواسطة الجهل المفاجئ والمضَلِّل...
وعلى المستمرين في هذا النهج –بعد الاعتراض الرسمي عليه في ورشة عمل اللغة الآرامية في الجامعة- تحمُّل مسؤولية إقصاء الحروف الآرامية الأصلية من التعليم وعملية الإحياء، فما ناله معهد معلولا من دعم بعض الفعاليات الاقتصادية والاجتماعية في المدينة، كان فرصة رائعة لإحياء الحروف الآرامية الأصلية ولاسيما أن التراث الآرامي -ومعه الكنعاني- برمته –كجزء من تراث الشرق القديم- مهدد فعلياً وعلى أرض الواقع من قبل الدوائر التوراتية كما يرى الدكتور خلايلي.
وحول تاريخ "العبرية" المستخدمة في معهد معلولا أفادنا الباحث خلايلي أن الحروف العبرية المستخدمة في معهد معلولا تنتمي إلى العبرية التي بدأت تأخذ شكلها النهائي في نهاية القرن الثامن الميلادي، وانطلاقاً من هذه الفترة قام لغويون ونُحاة يهود في الأندلس وبعض البلدان الأخرى بوضع القواعد النهائية للغة العبرية ومن هؤلاء اللغويين سعيد بن يوسف الفيومي ومناحيم بن سروق ودوناش بن لبراط ويهودا بن داود وشلومو بن جبيريل وابراهام بن عزرا وموسى بن عزرا... وكانت نسخة القرن العاشر الميلادي من كتاب التوراة نسخة بالعبرية الحديثة ذات الحركات التي بدأ بوضعها أحبار اليهود... وبعد تسعة قرون تقريباً، قام إليعيزر بن يهودا وشالوم ابراموفيتس وشالوم رابينوفيتس بوضع لمسات جديدة على العبرية الحديثة التي شهدت تطورات في القرن العشرين تتلخص في انتشار عبرية "الإيديش" وهي عبرية تخصّ يهود الغرب من أميركيين وألمان وبولونيين، ويُخشى تسرّب بعض نحوها ولفظها إلى معهد معلولا بواسطة كتابه التعليمي، وخاصة فيما يتعلّق بأسماء المدن والقرى...
في برنامج مدارات الذي يعدّه الإعلامي نضال زغبور وناقشت إحدى حلقاته الموضوع ذاته أعرب د. محمد محفل عن عدم إمكانية استبدال "الحروف العبرية" في معهد معلولا بالحروف الآرامية الأصلية المسطورة على تمثال الملك الآرامي السوري "هديسعي"
وكانت الحجة أن حروف هديسعي غير مشكولة بحركات!... وكنا قد أكدنا سابقاً –على ألسنة المختصين- أن حركات العبرية المستخدمة في معهد معلولا هي خطأ كبير –إضافة إلى خطأ اختيار الحروف- إذ لا يجوز استخدام قواعد العبرية في تعليم لفظ اللغة الآرامية، وهنا نوّه الدكتور خلايلي إلى القاعدة اللغوية التي يجب أن يعرفها اللغويون، وهي أنه إذا ما انتقلت قواعد لغة ما إلى لغة أخرى كان هذا الاقتباس نذيراً بفناء اللغة المقتبِسة واندماجها في اللغة المقتَبَس منها...
وأخيراً، فإن الخطوط الآرامية الأصلية السورية –بالإضافة إلى العربية الأم- متوفرة في التركة الأثرية السورية، وقد تم إقصاؤها من معهد معلولا لصالح الحرف ذي الشبهة والالتباس.
وباعتباره المعترض الرسمي على استخدام الحروف العبرية في معلولا، توجهنا بسؤال إلى الدكتور خلايلي حول مقترحات خاصة بمعهد اللغة الآرامية في معلولا لوضع حد للخطأ المستمر، فأجاب إنه تقدّم بطلب رسمي إلى مديرية الآثار والمتاحف -التي يعمل لديها منذ ست سنوات- وقد أورد في هذا الطلب أن عملية "إحياء" اللغة الآرامية القديمة قد خرجت عن إطار "الإحياء" لتتخذ شكل ترويج للحروف العبرية في معلولا -وبشكل ظاهر وتدريجي-، فاقترح إزالة كافة الكتابات بالحروف العبرية في معلولا والتي ظهرت حتى الآن في لافتة معهد اللغة الآرامية، وواجهة جامع المجد، ومقام التوبة للسيدة العذراء، وشواهد بعض القبور الحديثة، ومطوية سياحية خاصة بمعلولا يتم توزيعها في الأكشاك، وعلى أيدي بعض الشبّان بطريقة الوشم.
وبخصوص تدريس اللغة، اقترح الدكتور خلايلي تجميد التدريس في المعهد مدة ستة شهور ريثما يتم الاتفاق على تشكيل لجنة علمية لوضع منهاج أولي يتم من خلاله تدارك الخطأ الكامن في استخدام الحرف العبري، والعمل على استبداله بالحرف الآرامي الأصلي، وتقديم دروس نظرية حول تاريخ اللغة الآرامية كلغة سورية قديمة...
وبخصوص إنهاء الجدل حول الحروف الواجب استخدامها في إحياء اللغة الآرامية، تم الاقتراح بإقامة ندوات خاصة بالموضوع بالتنسيق بين الجهات العلمية المختصة... وبهذا الخصوص أشار الدكتور خلايلي إلى إشكاليات ذات صلة هامة بالموضوع مثل بعض مؤلفات الجامعة التي تشير بشكل مؤسف إلى عبارات مثل "الآرامية اليهودية" و"آرامية التوراة"، وهي عبارات مساوية في خطورتها لعبارة "الإسرائيليين القدماء" الذين يتحدّث أحد المؤلفات الجامعية المذكورة عن قدومهم إلى فلسطين!!!والملاحظة هنا – كما يبديها الباحث الخلايلي- هي كيف يمرّر المؤلف هذه المعلومة الغريبة للقرّاء ؟! إذْ لا توجد أية وثيقة قديمة تؤكّد وجود "إسرائيليين قدماء"، حتى كتاب العهد القديم (التوراة) ينفي هذه المعلومة ويشير فقط إلى مهاجرين إلى أرض كنعان – ولا يسمّيهم إسرائيليين، أُطلق على أحدهم ـ وهو يعقوب ـ اسم "إسرائيل" بموجب رواية خرافية لكاتب سِفر التكوين ـ السِّفر الأول في التوراة ـ على أن الحديث عن هذه الرواية الخرافية يتم دائماً في "ضوء العهد القديم"، و هو لا يدعو إلى إطلاق عبارة "الإسرائيليين القدماء" على من ورد ذكرهم في التوراة والإنجيل والقرآن الكريم بصيغة "بني إسرائيل"، وبين العبارتين ـ أي "الإسرائيليين القدماء" و"بني إسرائيل" ـ فرقٌ كبير، فالأولى تنطوي على خطأ كبير لأنها تربط الإسرائيليين الحاليين بـ "قدماء" لهم على شكل شعب تاريخي ـ وهذا ما تسعى إليه الدوائر التوراتية ـ ولكن في ضوء العهد القديم (التوراة)، لا يبدو "بنو إسرائيل" شعباً، ذلك أن كلمة "شعب" في علم التاريخ لا تُطلق إلاّ على من يحقق شروطاً معينة مثل الجذور والأصول واللغة والمنجزات الحضارية والدولة والتقاليد والاستمرارية، وكلها شروط لا تتوفر لبني "إسرائيل"... هذا فضلاً عن أن الواقع الأثري في المنطقة لا يقدم شيئاً بخصوص أولئك القوم.
ومن الأمثلة التي ساقها الدكتور خلايلي، دراسة تحمل عنوان "حول أصل الاسم سورية" منشورة في التسعينات في مجلة جامعية محلية محكمة، وفيها حاول أحد الباحثين من جامعة حلب تفنيد مزاعم أحد المستشرقين الذين ربطوا بين الاسم "سوريا" و"صور" زاعماً أن الأصلَ عبريٌّ للاسم باعتبار الزعم القائل بأن "صور" كلمة عبرية بمعنى الصخرة... وفي تفنيده لهذا الزعم تحدث الباحث قائلاً:"كلمة صور ليست عبرية فحسب، وإنما من الكلمات التي تشترك فيها عدة لغات سامية قديمة"!...
والباحث المذكور –حسبما قال الدكتور خلايلي- لم يفنّد الزعم السابق بل عاد وأكّد عبرية الاسم بتأكيده عبرية الاسم "صور"...!!!... هو ربما أخطأ في الصياغة اللغوية... ومع ذلك كان عليه أن يشرح خطأ نسب اسم صور إلى العبرية، فهذا الاسم كنعاني الأصل ووارد في النقوش الكنعانية الفينيقية السابقة لنصوص التوراة العبرية، أما ورود أي اسم كنعاني باللغة العبرية فلا يعني عبرية هذا الاسم، كما لا يعني اشتراك هذه التسمية مع باقي التسميات في لغات أخرى.
التسميات العبرية إلى متى ؟؟
و"لعبة التسميات العبرية" يختصّ بها الكيان الاسرائيلي، فهو يلجأ إلى إطلاق "أسماء عبرية" على المناطق التي يحتلها، ولهذه المناطق تاريخ كنعاني وآرامي أصيل، ومن ضمن هذا التاريخ الأسماء الكنعانية الأصلية التي ترد بالعبرية التوراتية (الكنعانية المقتَبَسة)، وورودها بالعبرية التوراتية أو الحديثة لا ينفي الأصل الكنعاني...
وفي إطار الجدل الدائر حول استخدام الحروف العبرية في معلولا التقينا السيد جورج زعرور من أبناء معلولا والباحث في لغتها الآرامية، فاختار الحديث والتعليق على حلقة مدارات التي بثّتها الفضائية السورية مساء يوم 17/8/2009، وواضعاً الحلقة تحت عنوان "كلمات أسقطت الأقنعة"... قائلاً: رغم الحوار القصير الذي دار بين الدكتور إبراهيم خلايلي من جهة وبين الدكتور محمد محفل وأ.جورج رزق الله من جهة أخرى في حلقة مدارات والتي لم تكن كغيرها من الحلقات السابقة، بسبب التخطيط المسبق لها، والذي انطوى على تغييب أصوات إضافية لصالح الحقيقة، فقد كانت مجريات الحلقة كالتالي كما لاحظتُ –والكلام للسيد جورج زعرور:
1-استهل الدكتور محفل الكلام بما سمّاه "القلم الآرامي المربع" والذي يتم تدريسه في جامعة دمشق...وما إن قدّم الدكتور خلايلي مداخلته الهامة في هذا الموضوع، حتى استل الدكتور محفل –بعصبية- كتابه الجامعي "اللغة الآرامية" قائلاً: "لقد ألّفت هذا الكتاب منذ أربعين عاماً، وجامعة دمشق هي التي أخذته مني واعتمَدَتْهُ كمقرر دراسي دون أن يكون لي علم بذلك..."
وبرأيي، فهذا التخلّي السريع عن الكتاب، وتحميل الجامعة مسؤوليته، يعتبر سقوطاً لأول قناع...
2- حين سُئل أ.جورج رزق الله عن "آرامية معلولا" أجاب باقتضاب: "اللغة التي نتكلّمها تناقلناها عن الآباء والأجداد ولا نعرف من أين أتت"...!!!...ثم قال: "اللغة الآرامية لغة زراعة"...و"معلولا بعيدة عن الحضارة..."...!...
وهنا لا بد من التعليق، إذْ كيف يُسمَّى مديرٌ لمعهد اللغة الآرامية لا يعرف من أين أتت هذه اللغة؟!!...وكيف يُسند هذا المنصب العلمي المرموق لمن لا يمتلك مخزوناً تاريخياً لغوياً يمكّنه من الحديث عن اللغة الآرامية؟...وكيف يقول إن الآرامية لغة زراعة فحسب، وهي اللغة التي دوّنت بها الامبراطوريات سجلاّتها الانسانية ومآثرها الأدبية؟... بالحروف ذاتها الموجودة على تمثال "هديسعي".
وكيف يدّعي أ.جورج رزق الله أن معلولا بعيدة عن الحضارة، وهي محمية حضارية أثرية تاريخية بكل معنى الكلمة، شهدت حضارات ما قبل التاريخ وحضارات الكنعانيين والآراميين والمسيحيين الأوائل...وما زالت حتى اليوم تنبض حضارةً ولغةً قديمةً أصيلة.
3- خلال الحلقة المذكورة أعلن الدكتور محفل بانفعال أنه سيطلب مختصين بالآرامية من الخارج ليثبت وجود دخلاء على اللغة الآرامية، فهل تخلّى الدكتور محفل عن الكوادر الوطنية في هذا المجال؟ وهل يعتبر الباحثين الأصلاء في الحضارة الآرامية، ومعهم من احتفظ باللسان الآرامي أباً عن جد، دخلاء على لغة الآباء والأجداد أمام المختصين الأجانب؟!.
وختاماً، فمن الضروري إيجاد صيغة رسمية للتعامل مع الموضوع من خلال إدارة موحدة له، فالمعهد تم إلحاقه إدارياً بالمعهد العالي للغات التابع لجامعة دمشق، وأهم ما قدّمته الجامعة لمعهد معلولا هو ورشة عمل اللغة الآرامية التي انعقدت في 9/4/2009، وخرجت هذه الورشة بتوصيات أهمها ضرورة تغيير الحرف المستخدم في تعليم الآرامية، لكن إجراءات ذلك لم تتخذ فعلياً على الأرض وما زال التعليم بالحرف العبري مستمراً حتى تاريخه، علماً أن الجامعة –كما ذكرنا- تتّّبع الأسلوب نفسه في تدريس اللغات السورية القديمة، وذلك باستخدام الحروف العبرية رغم وجود الأبجديات السورية الأصلية.
يؤكد الدكتور بهجت القبيسي أستاذ الكنعانية والآرامية في عدة جامعات أن الحرف المربع سمّي بالحرف الآرامي زوراً كي يجد اليهود لنفسهم صلة بالآرامية حيث لا يوجد أي نقش لما يسمونه زوراً الآرامي المربع، فالحرف الذي يدرّس في معهد معلولا لتعليم اللغة الآرامية هو حرف عبري بالتأكيد، ومن المعروف أن الدكتور محمد محفل درس آرامية التوراة بالحرف العبري فلماذا يستخدم المعهد هذا الحرف المربع؟ "الحرف العبري" الذي وجد في القرن الثالث الميلادي وليس له أي علاقة بالآرامية والبدائل الآرامية الحقيقية موجودة، فلماذا لا يتم استخدامها وإحياؤها كما هو مفترض؟.
يستغرب د. إبراهيم خلايلي لفظ كلمة (جبعدين) بـ (جيفعود) من قبل الأستاذ جورج رزق الله (مؤلف كتاب المدخل إلى اللغة الآرامية في لهجة معلولا المحلية) أي أنه استبدل الباء الآرامية بالفاء العبرية وهي اللفظ العبري الحديث، بينما يجب أن تلفظ في الآرامية بـ (غوبّّّّّّّّّّّّاعود) فإن كان اللفظ أساساً غير سليم واختيار الحرف غير صحيح فإلى أي مدى يغيب تاريخنا الآرامي الحقيقي وسط غفوات يجب تصحيحها فوراً؟.
تعليق