تقتصر تسمية “فينيقيا” على الجزء الأوسط من المنطقة المتوسّطيّة الشرقيّة الواقعة بين رأس البسيط في سوريا شمالاً وجبل الكرمل في فلسطين جنوباً، وسلسلة جبال لبنان الغربيّة شرقاً. ويبدو أن هذه التسمية كانت على الدوام ذات مدلول جغرافيّ محض، بمعنى كونها “أرض الفينيقيّين”. ثمّ ما لبثت أن أخذت مدلولاً إداريّاً ابتداءاً من العصر المتأغرق، أي عصر خلفاء الإسكندر الكبير، من سلوقيّي سوريا وبطالسة مصر، حتّى العصر البيزنطي.
وظلّ المؤرّخون والأخباريّون، عرباً كانوا أو فرنجة، يستخدمون مصطلح “فينيقيا” بمعناه الإداري حتى العصر الوُسطوي. وكانت فينيقيا بهذا المفهوم تُقسم إلى قسمين، يُطلَق على أحدهما اسم “فينيقيا الأولى أو الساحليّة”، وعاصمتها أو “مدينتُها-الأمّ” صور أو بيروت، بحسب الظروف التاريخيّة، فيما كان يُطلَق على الأخر اسم “فينيقيا الداخليّة أو اللبنانيّة” وعاصمتها أو “مدينتُها-الأمّ” دمشق أو حمص. ضومن الجدير بالذكر أن هذه التسميات بقيت قائمة حتّى اليوم، لا سيّما في المجال الكَنَسيّ، إذ إنّ مطارنة بيروت وصور وصيدا وطرابلس عند الطوائف المَلَكيّة، من روم أورثوذوكس أو كاثوليك، ما يزالون يحملون لقب “المتقدّم في الكرامة والمتصدّر في الرئاسة على كلّ فينيقية الساحليّة”، فيما يحمل مطارنة بعلبك وحمص وحماة لقب “المتقدّم في الكرامة والمتصدّر في الرئاسة على كلّ فينيقية اللبنانيّة أو الثانية”.
غأمّا تسمية “فينيقيّين” فكان الإغريق يُطلقونها على شعوب تلك المنطقة في غضون الألف الأولى ق.م. ولا ندري ما الذي حدا بهم إلى استخدامها، لا سيّما وأن الاجتهادات حول معنى كلمة “فينيقي” غير مُقنعة على الإطلاق، لجهة اشتقاقها من اللفظة اليونانيّة التي تعني الحُمرَة أو النخيل وما إلى ذلك. إذ لم يكن هؤلاء أكثر حُمرة من الشعوب المتوسّطيّة الأخرى، ولم تكن أرضهم أكثر نخلاً من وادي النيل وبلاد الرافدين، كما وأن احتراف صباغة الأرجوان من قِبل بعضهم لا يبرر إطلاق تسميةٍ مرتبطةٍ بحرفةٍ يتعاطاها بعضُهم عليهم جميعاً. أضف إلى ذلك أن لا علاقة للـ”فينيقيّين” بطائر “الفينيق” والميثولوجيا المرتبطة به. فهذا الطائر ينتمي إلى فصيلة طويلات الأرجل، وقد اعتبره المصريّون رمزاً للشمس التي كانوا يتعبّدون لها في “هيليوبوليس-مدينة الشمس” المصريّة قرب القاهرة. ولم يدخل في “الفولكلور التاريخي اللبناني” إلا في العصر المتأغرق، أي في أيّام خلفاء الإسكندر، عندما تخلّق السكّان المحلّيّون بأخلاق الإغريق واعتمدوا لغتهم ومصطلحاتهم وحوّلوا اسم “بعلبك” إلى “هيليوبوليس” بعدما أسبغوا على آلهتها صفاتاً شمسيّة!صحيح أن كلمة (بو-ني-كي-يا) الواردة في اللغة الميقينيّة في القرن الرابع عشر ق.م. تعني اللون الأحمر أو أحد صنوف النبات ذي اللون الأحمر، كما تعني أيضاً “مركبة”!
وليس من دليل على أن شعباً تسمّي باسم “مركبة” أو اشتقّ اسمه من “نبتة”، ولو كانت حمراء! إلا أنّ في اللغة المصريّة القديمة لفظة قريبة الشبه باسم “الفينيقيّين”، ألا وهي “فنخو” التي كانت تعني “الحطّابين”، وهو أمر قد يكون جديراً بالاهتمام لولا بعض المحاذير! إنّنا نعتقد أنّه من العبث الغوص في تفسير هذا المصطلح، لأنّ ما من شعب قبِلَ أو يقبل بأن يُسمّي نفسه أو يُسمّى باسم فئة من صُنّاعِه أو حرفيّيه أو عُمّاله أو لون بشرته أو أحد أصناف نباته! الأمر الذي يفسّر رفض “الفينيقيّين” أنفسهم هذه التسمية للتعريف عنهم. فـ”الفينيقي” لم يُسَمِّ أرضه “فينيقيا”، بل كان ينتسب إلى مدينته-الأم. فكان “صيدونيّاً” أو “صوريّاً” أو “جُبيليّاً” أو “ارواديّاً” وما إلى ذلك. وإن شاء التعريف بأرضه، فهي “أرض كنعان” أو “كنعان”. ويعني هذا الواقع أن رفض سكّان تلك المدن نعتهم بـ”الفينيقيّين”، كان، على ما يبدو، نتيجة رفضهم المعنى التحقيري الخفيّ الذي تنطوي عليه تلك التسمية التي تبدو مشتقّة من لفظة يونانيّة لا تعني “الأحمر” وحسب وإنّما أيضاً “المدمَّم” أو”الملطّخ بالدمّ” وحتّى “القاتل والمجرم”. وهذا ما يظهر جليّاً من خلال بعض النصوص اليونانيّة التي كانت تصف “الفينيقيّين” بالخداع والأذيّة والسرقة وخطف الناس من على الشواطئ، لا سيّما الأطفال منهم، وبيعهم كعبيد في أرجاء المتوسّط.
ضمن هنا، ربّما، يمكن فهم رفض “الفينيقيّين” تسميتهم بهذه التسمية المحقِّرَة التي جاءتهم من الإغريق والرومان، وعزوفهم عن استخدامها في ما خلّفوه من كتابات ورُقُم. وهذا ما يفسّر ما فعلته “بيروت” عندما نقشت على عُمُلاتها في أيام السلوقيين، عبارة “بيروت، أمّ بكنعان”، أي “عاصمة” أو “مدينة ـ أم” في بلاد كنعان. وقد بقي هذا المصطلح حيّاً في ذاكرة الناس، لا سيّما في المناطق التي استعمرها “الفينيقيّون” في شمال إفريقيا، حتّى عصور متأخّرة نسبيّاً. ويفيد القديس أوغوسطينوس (354 - 430) في إحدى رسائله إلى أهل روما بـ”أن فلاحي مدينته” الأسقفيّة عنّابة، التي تقع اليوم في الجزائر، “إذا سُئلوا عن هويتهم، كانوا يجيبون باللغة الفونيقيّة بأنهّم كنعانيّين”!
“كنعان” و “الكنعانيّون”:
وظلّ المؤرّخون والأخباريّون، عرباً كانوا أو فرنجة، يستخدمون مصطلح “فينيقيا” بمعناه الإداري حتى العصر الوُسطوي. وكانت فينيقيا بهذا المفهوم تُقسم إلى قسمين، يُطلَق على أحدهما اسم “فينيقيا الأولى أو الساحليّة”، وعاصمتها أو “مدينتُها-الأمّ” صور أو بيروت، بحسب الظروف التاريخيّة، فيما كان يُطلَق على الأخر اسم “فينيقيا الداخليّة أو اللبنانيّة” وعاصمتها أو “مدينتُها-الأمّ” دمشق أو حمص. ضومن الجدير بالذكر أن هذه التسميات بقيت قائمة حتّى اليوم، لا سيّما في المجال الكَنَسيّ، إذ إنّ مطارنة بيروت وصور وصيدا وطرابلس عند الطوائف المَلَكيّة، من روم أورثوذوكس أو كاثوليك، ما يزالون يحملون لقب “المتقدّم في الكرامة والمتصدّر في الرئاسة على كلّ فينيقية الساحليّة”، فيما يحمل مطارنة بعلبك وحمص وحماة لقب “المتقدّم في الكرامة والمتصدّر في الرئاسة على كلّ فينيقية اللبنانيّة أو الثانية”.
غأمّا تسمية “فينيقيّين” فكان الإغريق يُطلقونها على شعوب تلك المنطقة في غضون الألف الأولى ق.م. ولا ندري ما الذي حدا بهم إلى استخدامها، لا سيّما وأن الاجتهادات حول معنى كلمة “فينيقي” غير مُقنعة على الإطلاق، لجهة اشتقاقها من اللفظة اليونانيّة التي تعني الحُمرَة أو النخيل وما إلى ذلك. إذ لم يكن هؤلاء أكثر حُمرة من الشعوب المتوسّطيّة الأخرى، ولم تكن أرضهم أكثر نخلاً من وادي النيل وبلاد الرافدين، كما وأن احتراف صباغة الأرجوان من قِبل بعضهم لا يبرر إطلاق تسميةٍ مرتبطةٍ بحرفةٍ يتعاطاها بعضُهم عليهم جميعاً. أضف إلى ذلك أن لا علاقة للـ”فينيقيّين” بطائر “الفينيق” والميثولوجيا المرتبطة به. فهذا الطائر ينتمي إلى فصيلة طويلات الأرجل، وقد اعتبره المصريّون رمزاً للشمس التي كانوا يتعبّدون لها في “هيليوبوليس-مدينة الشمس” المصريّة قرب القاهرة. ولم يدخل في “الفولكلور التاريخي اللبناني” إلا في العصر المتأغرق، أي في أيّام خلفاء الإسكندر، عندما تخلّق السكّان المحلّيّون بأخلاق الإغريق واعتمدوا لغتهم ومصطلحاتهم وحوّلوا اسم “بعلبك” إلى “هيليوبوليس” بعدما أسبغوا على آلهتها صفاتاً شمسيّة!صحيح أن كلمة (بو-ني-كي-يا) الواردة في اللغة الميقينيّة في القرن الرابع عشر ق.م. تعني اللون الأحمر أو أحد صنوف النبات ذي اللون الأحمر، كما تعني أيضاً “مركبة”!
وليس من دليل على أن شعباً تسمّي باسم “مركبة” أو اشتقّ اسمه من “نبتة”، ولو كانت حمراء! إلا أنّ في اللغة المصريّة القديمة لفظة قريبة الشبه باسم “الفينيقيّين”، ألا وهي “فنخو” التي كانت تعني “الحطّابين”، وهو أمر قد يكون جديراً بالاهتمام لولا بعض المحاذير! إنّنا نعتقد أنّه من العبث الغوص في تفسير هذا المصطلح، لأنّ ما من شعب قبِلَ أو يقبل بأن يُسمّي نفسه أو يُسمّى باسم فئة من صُنّاعِه أو حرفيّيه أو عُمّاله أو لون بشرته أو أحد أصناف نباته! الأمر الذي يفسّر رفض “الفينيقيّين” أنفسهم هذه التسمية للتعريف عنهم. فـ”الفينيقي” لم يُسَمِّ أرضه “فينيقيا”، بل كان ينتسب إلى مدينته-الأم. فكان “صيدونيّاً” أو “صوريّاً” أو “جُبيليّاً” أو “ارواديّاً” وما إلى ذلك. وإن شاء التعريف بأرضه، فهي “أرض كنعان” أو “كنعان”. ويعني هذا الواقع أن رفض سكّان تلك المدن نعتهم بـ”الفينيقيّين”، كان، على ما يبدو، نتيجة رفضهم المعنى التحقيري الخفيّ الذي تنطوي عليه تلك التسمية التي تبدو مشتقّة من لفظة يونانيّة لا تعني “الأحمر” وحسب وإنّما أيضاً “المدمَّم” أو”الملطّخ بالدمّ” وحتّى “القاتل والمجرم”. وهذا ما يظهر جليّاً من خلال بعض النصوص اليونانيّة التي كانت تصف “الفينيقيّين” بالخداع والأذيّة والسرقة وخطف الناس من على الشواطئ، لا سيّما الأطفال منهم، وبيعهم كعبيد في أرجاء المتوسّط.
ضمن هنا، ربّما، يمكن فهم رفض “الفينيقيّين” تسميتهم بهذه التسمية المحقِّرَة التي جاءتهم من الإغريق والرومان، وعزوفهم عن استخدامها في ما خلّفوه من كتابات ورُقُم. وهذا ما يفسّر ما فعلته “بيروت” عندما نقشت على عُمُلاتها في أيام السلوقيين، عبارة “بيروت، أمّ بكنعان”، أي “عاصمة” أو “مدينة ـ أم” في بلاد كنعان. وقد بقي هذا المصطلح حيّاً في ذاكرة الناس، لا سيّما في المناطق التي استعمرها “الفينيقيّون” في شمال إفريقيا، حتّى عصور متأخّرة نسبيّاً. ويفيد القديس أوغوسطينوس (354 - 430) في إحدى رسائله إلى أهل روما بـ”أن فلاحي مدينته” الأسقفيّة عنّابة، التي تقع اليوم في الجزائر، “إذا سُئلوا عن هويتهم، كانوا يجيبون باللغة الفونيقيّة بأنهّم كنعانيّين”!
“كنعان” و “الكنعانيّون”:
تعليق