بسم الله الرحمن الرحيم
توطئة:
ثار جدل متجدد منذ صيفي العامين المنصرمين لذكرى مرور 100 عام على ما أطلق عليه "اتفاقية سايكس-بيكو". واندلع جدل حول حقيقة تقسيم العالم العربي إلى دول ودويلات وتجزئته من خلال فرض حدود اعتباطية (لوضوح رسم معظمها بخط اليد والمسطرة المستقيمة)، وما إذا تسببت هذه الاتفاقية السرية، التي قُدّر لها أن تُفضح بعد شهور قليلة من عقدها، في هذا التقسيم والتجزئة للوطن العربي الذي لا تظهر عليه وجود اختلافات قومية أو دينية أو سياسية أو تاريخية تحتم وضع حدود معينة. كما لا تبرز أية موانع أو عوائق جغرافية تبرّر هذه الحدود. لكن يبدو أن هذه الاتفاقية ليست المسؤولة لوحدها عن تكريس وجود هذه الدول والدويلات العربية المتشرذمة، بل تأتي كحلقة ضمن سلسلة طويلة عقدتها الدول المنتصرة في الحرب العالمية الأولى. فلعل انكشاف أمر اتفاقية سايكس-بيكو على يد الثوار البلاشفة في روسيا بعد اندلاع ثورتهم سنة 1917 أدى إلى ضرورة تغييرها وتعديلها غير مرّة، فهي اتفاقية مثّلت خطوة تمهيدية أثناء الحرب العالمية الأولى لاستهلال التقسيم الذي عزمت عليه القوى الغربية الاستعمارية. ومع أن هذه القوى واجهت إحباطات متعددة لمشروعها -كهزيمتها في معركة غاليبولي، وانتصار بريطانيا المكلّف جدا في جنوب العراق ومعركة كوت العمارة، ثم مواجهتها للثورة العراقية الكبرى سنة 1920، واندلاع أكثر من تمرد على الحكم البريطاني في مصر، وأحداث أخرى كثيرة- إلا إن القوى الاستعمارية آنذاك أصرّت على مشروعها التقسيمي للوطن العربي مهما كلّف الثمن. ولا يختلف إثنان على أن هذا المشروع جرّ على الدول الغربية أحمالا باهظة الثمن ومشاكل لا حصر لها بسبب عدم تحمل المنطقة العربية أعباء مسؤولياتها السياسية والإقتصادية والإجتماعية لوجود قوى الاستعمار كاحتلال مباشر تارة، وظهور أنظمة تسلطية قمعية تابعة للغرب تارة أخرى.
وهكذا، كان من بين المقالات البحثية التي ظهرت عن هذا الموضوع خلال العامين المنصرمين المقال الذي قدمته البروفيسورة التركية بينار بيلغين (سنقدم نبذة عنها أدناه) الذي وضعنا له عنوان "دلالات على سايكس-بيكو"، وقد حصلتُ عليه من أحد المواقع الإليكترونية. يجدر التنويه إلى أن الباحثة أخذت من زعم ما أطلق عليه "تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام" (داعش) تدمير الحدود بين البلدين و"القضاء على سايكس-بيكو" نقطة انطلاق لمقالها –الذي ربما هو جزء من بحث أو دراسة أكبر- لا لكي ترد على ذلك التنظيم، بل لإثبات حقيقة تطرحها وترى أنها هامة للغاية، وهي أن المشكلة لا تكمن في اتفاقية سايكس-بيكو بحد ذاتها أو الحدود التي نتجت عن عملية التقسيم لاحقا، بل في الأسلوب السياسي الذي تُدار من خلاله بلدان المنطقة حيث الأنظمة القمعية التسلطية والاستبدادية المتماثلة في الشرق الأوسط (وتحديدا بلدان العالم العربي) وإن اختلفت أشكالها وأحجامها وأدوارها. ويظهر لنا من النص استخدام الباحثة التركية لجملة ن المفاهيم التي تبدو لكثير منا أنها بحاجة لمزيد من الشرح والتفسير. ونحن كمترجمين للنص نترك الحكم على هذه المفاهيم المعاصرة للقارئ الواعي والمجتهد في البحث، سوى أن ترجمتها وتعريبها يقع على عاتقنا وفي صميم مسؤوليتنا المعرفية، مع صعوبة هذه المهمة وتعقيدها.
اقترحت على الزميل الطيب جابر عطاالله ترجمته فوافق مشكورا وأتم الترجمة خلال مدة معقولة. لكن مع مراجعة الترجمة برزت إشكاليات دلالية ووظيفية في النص لتعريفات ومفاهيم لها نصيب محوري وهام في المقال يتعذر المرور عليها مرور الكرام. وبدا لنا أن ليس لبعض هذه المفاهيم مقابلات ومكافئات واضحة ومنضبطة في لغتنا العربية، فهي عبارات حديثة التكوين والاستعمال حتى في اللغات الأخرى كاللغة الإنجليزية التي تخلو من تعريف دلالي ووظيفي مباشر ومنضبط. من هذه المفاهيم التي ذكرتها الباحثة في مقالها واستخدمتها استخداما جوهريا المصطلح التالي الذي استوقفنا كثيرا:
Discursive Economy
وقد اجتهدتُ في البحث عن مقابلات معقولة له في أرشيف الإنترنت فلم يظهر شيء مفيد. ثم فتحت نقاشات في صفحات التواصل الاجتماعي وكذلك منتدى الجمعية الدولية لمترجمي العربية ATI فتوجهت اقتراحات بعض الزملاء إلى الترجمة المباشرة للمصطلح "الإقتصاد الخطابي أو التخاطبي". لكن المشكلة أنه ما من مدلول أو وظيفة أو استخدام لهذا التعبير إذا أخذناه كمقابل للمصطلح المذكور أعلاه، لا سيما وإن سياق المصطلح لا يشير لأي نوع من أنواع الإقتصاد المعلومة التي بحثت فيها ونقّبت عن معنى قريب لهذا السياق. إذا استخدمنا تعبير "الإقتصاد الخطابي أو التخاطبي" فلن يعني هذا شيئا مفهوما له تجسيد معلوم أكاديميا أو واقعيا، وسيصبح الاستخدام الترجمي مجرد تأدية واجب كيفما اتفق، وهو ما لا نريده لنشاطنا المعرفي في هذا المجال. ثم جاءتني إحدى الزميلات من فلسطين وأشارت لي على رابط لندوة وضع فيه أستاذ أكاديمي من فلسطين المحتلة اسمه د. إمطانيس شحادة تعريبا للمصطلح وهو "الهياكل المقونِنة للإقتصاد" . فعرضت هذا التعريب في منتدى الجمعية الدولية فناقشني فيه الأستاذ حامد السحلي مشكورا نقاشا مستفيضا، إذ أعرب عن تحفظه على الاستخدام أو "الإطراد الصرفي" بهذا الأسلوب اللغوي. ثم سار بنا النقاش إلى تحويله إلى "الهياكل الإقتصادية المقوننة" كأسلوب أصح لغويا. ومع النقاش المستمر الذي اشترك فيه الدكتور عبد الحميد مظهر، اقترح الأستاذ حامد تعبير "الإقتصاد القسري" أو "النمط الإقتصادي القسري"، وهو أفضل ما يمكن استنباطه من مدلول المصطلح في السياق. غير أنني وضعت عاملين رئيسين لفهم المصطلح وتفكيكه ثم تركيب تعريب أظن أنه يقترب من المعنى السياقي بطريقة أو بأخرى، ولا أزعم هنا أنه التعريب النهائي أو الصحيح أو الفعلي للمصطلح، بل هو محاولة للتقريب والمقاربة في ظل عدم وجود مقابل صريح أو حتى قريب. فأما العاملان فهما:
- التعريف القاموسي
- الحكم السياقي
فأرى أن المصطلح يتكون من صفة discursive وموصوف economy ولذا فإن تفكيك المصطلح بالإنجليزية يعتمد على كلمته الأساسية هنا economy التي اقترحنا أن معناها الدلالي -وربما الوظيفي- كما شرحه قاموس (مريم-وبستر) يقترب من المدخل الثالث في بنده (a) الذي ينص على:
the arrangement or mode of operation of something: organization
في حين إذا تتبعنا مفردة discursive قاموسيا (كما في مريم-وبستر أيضا) سنرى أن مدخلها الثالث يرتبط بمفردة discourse التي إن تفحصنا مدخلاتها في هذا الرابطسنلحظ أن مدخلها الثالث يقترب شيئا ما كذلك من السياق الوارد بالبحث فيقول التالي:
a mode of organizing knowledge, ideas, or experience that is rooted in language and its concrete contexts (such as history or institutions) * critical discourse
وهو نوع أو نسق من التنظيم يرتبط (بالنهاية) بسياقات تاريخية أو مؤسساتية مادية أو صلبة.فانتقاء المدخلين الثالث والثالث للمفردتين أرجو ألا يفهم منه الاعتباط أو التعسف، بل جاء نتيجة لحكم السياق الوارد. وهو أفضل فهم لي -على الأقل- للمصطلح، ولا أدعي أنه الفهم الصحيح البتة.
وعلى الرغم من الإشكال الماثل بصعوبة ربط ذلك مع السياق الوارد في البحث، لحداثة العهد بالمصطلح أوربما لتعسف الباحثة باستخدامه كفكرة جوهرية بَنَت عليها ورقتها، إلا إن المترجم لا بد أن يواجه مثل هذه المواقف بأفضل الحلول المتاحة. وليس ذنبه ولا ذنب اللغة أن ثمة قيود وعراقيل تواجه التقدم الحضاري والمعرفي في واقعه المعاصر. فإنما هي قيود صنعناها نحن بإيدينا وكبلنا بها أنفسنا.
فأقترح كترجمة -غير نهائية- استخدام تعبير "تنظيم قسري" كتعميم يشمل فكرة الإقتصاد (إن كان إقتصادا) متضمنا في "تنظيم" لأن الإقتصاد نوع من أنواع التنظيم. ويشمل القانون (إن كان قانونا) متضمنا في "قسري" لأن القانون يأتي بالقسر والإجبار في النهاية.
كما أننا واجهنا تعبيرا طويلا آخر محوري وجوهري استخدمته الباحثة في نص المقال مرارا ألا وهو
top-down, military focused, state-centric and statist security governance
الذي استخدمنا له تعبير "حوكمة أمنية سيادية ذات دولة مركزية وعسكرية وهرمية" الذي هو أفضل فهم لنا في هذا السياق، ولا نزعم أنه التعبير الأساسي المقابل والمعمول به في المجال الفكري السياسي الأكاديمي،إن كان يمثل مصطلحا ثابتا بطبيعة الحال.سنضطر لاستخدام هذه الحلول، مع التأكيد أن نص الترجمة خاضع للتعديل وتقبّل الاقتراحات المؤكدة من أهل الاختصاص ومن لديه معلومة ثابتة حول أي مصطلح استخدمناه في الترجمة.
====================
سنبقي في متن النص الحواشي التي ذكرتها الباحثة، لكننا لن نضع قائمة المراجع في هذا المنشور بل سنخصص له ملفًا نصيًا pdf سننشره لاحقًا أو نقدمه لمن يرغب، حفاظًا على حقوق المترجمين. والله الموفق والمعين.
====================
نص المقال في المشاركة التالية ==>
تعليق