بسم الله الرحمن الرحيم
أقدم هنا ترجمتي لمقدمة كتاب البروفيسور تيموثي بلانينج "السعي نحو المجد: أوروبا بين عامي 1648 و1815 The Pursuit of Glory: Europe 1648-1815. حيث راقت لي أفكار الكتاب ومقدمته لما تحتويه من تتبع تاريخي (موجز) لمخاضات التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي في أوروبا خلال فترة الدراسة وهو ما أدى إلى تحرر الأوروبيين من الفكر الكنسي الذي كبلهم عن التقدم الحضاري مئات السنين.
(يرجى ممن يريد قراءة النص الإنجليزي الأصلي للمقارنة والتحليل الولوج من هنا)
[frame="15 98"]
تيموثي بلانينج
ولذا يمكن تعليل استخدام هذا الكتاب لهذا التاريخ المبدئي، لكن يجب الإقرار في ذات الوقت أن صلح وستفاليا ترك قضايا معلقة أكثر من تلك التي حسمها. فالحرب بين أسبانيا وفرنسا ظلت ناشبة حتى انعقاد صلح البرانس سنة 1659، وربما لم تنقضِ أوزارها حتى أُسبِغ الاعتراف الدولي على وراثة آل بوربون لأسبانيا سنة 1714. أما في الشمال والشرق، فقد استمر الوضع مائعا بلا حسم، حيث تعرّض التفوق السويدي إلى المنازعة على يد قوة وحيدة في البداية ثم تلتها أخرى من خلال سلسلة حروب مثيرة للحيرة لم تتوقف إلى أن انعقد صلح نيستاد سنة 1721. والقوتان اللتان ستصبحان فيما بعد القوتين الرئيستين في السياسة الدولية كانتا واقعتين في أتون حرب المائة عام الثانية بين إنجلترا وفرنسا، وهي الحرب التي لم تنتهِ إلا سنة 1688، ثم التوسع الروسي الذي لم يبدأ إلا سنة 1695. بل على العكس من ذلك، فإن المسار الذي اتخذته السياسات الوطنية الداخلية اتجهت نحو مزيد من الشكوك وانعدام اليقين. فسنة 1648 هي التي بدأت فيها الحروب الأهلية الفرنسية -الفروند- وفي سنة 1649 أُعلنت الجمهورية في إنجلترا عقب إعدام الملك تشارلز الأول. وقد تطلب حل هذه النزاعات المختلفة انتظار "الحكم المنفرد" للويس الرابع عشر سنة 1661 و"الثورة المجيدة"[2] سنة 1688 على التوالي.
ثمة أمور غير مبتوت فيها سنة 1648 كما هو الحال فيما لم يبت فيه سنة 1815. وفي الفصول التالية، ستُغزل الخيوط معا لتقدم دليل الخروج عبر متاهة تسعى لأن تكون مُحكمة دون أن تأخذ شكلا مرسوما. ولو لم يتوفر سرد من السرديات الكبرى يدعمه هيغل أو ماركس -أو حتى المؤرخون الأحرار- فبالقطع ثمة خطوط من التطور القابلة للتميز، وأكثر هذه الخطوط إثارة للذهول في عالم السياسة هو ذلك التوجه الذي تبنته الدولة نحو السطوة والهيمنة. وبحلول سنة 1815، تأسست مطالبات الدولة في معظم أرجاء أوروبا نحو احتكار التشريع والولاء في داخل حدودها الإقليمية من خلال القانون في حقيقة الأمر، إن لم يتحقق ذلك عبر أي شيء آخر. وعلى الرغم من وجود تعددية وافرة من النظم الدستورية التي تتراوح بين الديمقراطية والأوتوقراطية، إلا أن ما يقع خلفها جميعا هو السيادة المجردة المتمثلة بالدولة. أما الكيانات السياسية التي لم تستطع تحقيق ذلك "الاحتكار للقوة الشرعية" (ماكس فيبر) التي تكمن في عمق الدولة، كبولندة والإمبراطورية الرومانية المقدسة، أصبحت فريسة سهلة لخصومها الذين اتسمت قراءتهم للإشارات المعاصرة بدقة أكبر. وقد احتلت العلمانية حيزا وجزءا لا ينفصم من هذا التطور، وهو ما تضمن إقصاء أي شكل من أشكال التدخل البابوي وحكم بتبعية الكنيسة للدولة. غير أن الدماء التي سرت في عروق الدولة عابها الفتور والضعف، ولذلك كانت هناك حاجة ملحة إلى إجراء ما يشبه عملية نقل دموي من شيء يستجلب مزيدا من الحيوية والإلهام وذلك لتحفيز أعضاء الدولة. ولم يكن ثمة أفضل من القومية لأداء هذا الدور، فهي دين دنيوي يمتلك القدرة على إطلاق عنان الإخلاص والكراهية بدرجة من الشراسة تضاهي أية تجربة عايشها الناس أثناء الصراعات الدينية بأية حقبة سابقة.
يتعين على الدول الناجحة التكيّف مع التغيير الاجتماعي، ولا تزدهر تلك الدول إلا بعد النجاح في دمج نخب مجتمعاتها والتكامل معها. وقد يتحقق ذلك من خلال البلاط الملكي، كما في حالة مشروع فيرساي للملك لويس الرابع عشر، أو عبر مجلس نيابي كما في البرلمان الإنجليزي، أو عبر طبقة النبلاء كما في بروسيا وروسيا، أو من خلال مزيج ما بين الأنواع الثلاثة كما في ملكية هابسبورغ. وفي كل حالة من تلك الحالات، ثبت وجود توجه لا ينفصم نحو ذلك التلاحم الصلب الذي يبدو غير قابل للفكاك عن المؤسسات السياسية. وحتى الحل غير المألوف الذي تكيفت معه بريطانيا واجه تصلبا في الشرايين بحلول سنة 1815. فقد اضطرت كل الدول الأوروبية، مهما تباينت تعقيداتها الاجتماعية، إلى التقبل الإجباري لنشوء نوع جديد من أنواع الفضاءات الثقافية- ألا وهو الحيّز الجماهيري، الذي مثّل ذاته كمنتدى يستطيع من خلاله الأفراد الذين عانوا من العزلة سابقا أن يجتمعوا معا لتبادل المعلومات والأفكار وممارسة النقد، وهو حيّز يقع في طبيعته ما بين النطاق الخاص للعائلة والشؤون الرسمية للدولة. وسواء حدث التواصل البيني للأفراد عن بعد بواسطة الاشتراك بذات النشرات الدورية أو التلاقي وجها لوجه في المقاهي أو في إحدى الجمعيات غير الربحية كنوادي القراءة أو المحافل الماسونية، فإن الرأي الجماهيري اكتسب وزنا جمعيا أضخم بكثير من مجموع أعضائه الفرادى. ومن الحيز الجماهيري بزغ نجم مصدر السلطة الجديدة التي تحدت صناع القرار في النظام القديم: ألا وهي سلطة الرأي العام. وقد تنوّع توقيت هذا التحوّل حسب طبيعة كل بلد أوروبي. فأولى البلدان التي دخلت هذا الميدان بريطانيا والجمهورية الهولندية، ذلك أنهما تشاركا معدلات مرتفعة نسبيا في التعليم والتمدّن وامتلكا نظاما يتمتع برقابة ليبرالية نسبية. والشيء بالشيء يذكر، وعلى النقيض التام كما في الطرف الآخر من أوروبا، فمن شبه المستحيل العثور على أي مظهر يشبه الحيز الجماهيري أو الرأي العام في روسيا قبل القرن التاسع عشر. وكما سنرى، عندما يحدث إدارة فاعلة للرأي العام فإن باستطاعته أن يؤدي وظيفة مصدر لموارد وسلطة إضافيتان للدولة ومعززتان لها. أما لو تعرض الرأي العام للتجاهل أو سوء الفهم أو الانعزال، كما حدث في فرنسا، فإن النتيجة قد تصل إلى التغيير الثوري.
لقد استمدت القوى التي كوّنت الحيز الجماهيري معظم أجزائها الأساسية من التوسع الأوروبي داخليا وخارجيا. فبعد وقوع المشاكل الحادة في النصف الأول من القرن السابع عشر التي سببتها الحرب والكساد والطاعون والمجاعة، كان التعافي بطيئا ومتقطعا وترقيعيا، لكن المؤشرات التنموية أخذت تتصاعد نحو الأعلى شيئا فشيئا، ومن مظاهرها: تعداد السكان المتزايد، نسبة الإنتاج الزراعي المرتفعة، حركة التجارة والتصنيع المتنامية، زيادة التمدن والحياة الحضرية، واستئناف التوسع الاستعماري. ومع حلول الربع الثاني من القرن الثامن عشر ، بدأت العملية تأخذ منحنى التسارع والتعزيز، بالرغم من الانتكاسات التي عرقلتها. فالتحسينات التي طرأت على حلقات التواصل الطبيعية احتلت أهمية مميزة، وقد نوقشت هذه المسألة في الفصل الأول. أما الفوائد فقد توزعت توزيعا غير متساوٍ. فأول من يقف بطابور الانتفاع الدولة، وهي التي تجاوز نهمها، بفرض مزيد من الضرائب لتحمل تضخم قواتها المسلحة، ليصل إلى الرجل الثري في قصره وكذلك إلى عتبة دار الفقير. أما ثانيهم فهم طبقة ملاك الأراضي الذين سرّهم استغلال ظاهرة "السعر المنقوص"[3] التي احتلت مكانا بين كميات الأموال المتزايدة التي جنوها من الإنتاج الزراعي والتكلفة المنخفضة نسبيا للبضائع المصنّعة التي اشتروها. ومع ارتفاع أسعار الأراضي إلى ثلاثة أضعاف وثبات الوجاهة المصاحبة لملكية الأرض، أمكن لهذا القطاع الطموح أن يزدهر إلى حد بعيد. وثمة مجموعة رئيسة ألا وهم المزارعون المستأجرون للأرض الذين يُعزى إليهم معظم الابتكارات المرتبطة بالشؤون الزراعية في تلك الحقبة. ومن الذين انتعشوا كذلك المقرضين والممولين، لاسيما أولئك الذين اشتركوا بتمويل الدولة والتجار الذين كان لهم ضلع في التجارة الاستعمارية على وجه الخصوص. واستطاع المنتجون الجريئون القادرون على العمل خارج نشاطات نقابات العمال المقيّدة أن يتمتعوا بمنافع مضاعفة من النمو الذي طرأ على كل من الطاقة العمالية والثورة الاستهلاكية التي عملت على تراكم القوة مع مضي القرن الثامن عشر.
إجمالا للقول، خلق التوسع الاقتصادي في القرن الثامن عشر طبقة ضخمة ومتنامية من المنتفعين والمستفيدين. ولعل أفضل من احتل موقعا مثاليا للحصول على أقصى الفرص في القرن هو ذلك النبيل الذي امتلك أراض عقارية كبيرة غنية بالثروات المعدنية، واستفاد من الخدمات التي قدمتها له الاتصالات الجيدة وتموقع في المناطق الصناعية، وهو الذي -وهذا ربما هو العامل الأهم- تنعم بالمؤهلات الشخصية والفكرية الكافية لتجعله أحد أصحاب المشاريع ورجالات الأعمال. وهذا الرجل -لا بد أن يكون رجلا، ذلك أن النساء كن يخضعن لجميع صنوف التمييز- قد يعقد قرانه على إحدى السيدات التي تنتمي إلى عائلة لها نشاطات في التمويل الحكومي والصرافة الاستثمارية والتجارة ما وراء البحار. وسيحتاج إلى ضمير صلد يمكنه من نسيان الخدمات القسرية الشاقة التي يقوم بها سبعة ملايين عبد نُقلوا من أفريقيا إلى الكاريبي على مدار القرن. وسيتلقى النصائح بأن يصبح "إنجليزيا" ليبقى محصنا نسبيا ضد الزيارات المفاجئة من مشاكل مزمنة تأخذ شكل الحروب أو الثورات، وهو ما انكب عليه أقرانه الأوروبيون لاسيما بعد سنة 1789.
بيد أن المنافع لم تتوزع توزيعا متساويا. فمن الناحية الجغرافية، حدث انحدار حاد تبايَن من منطقة الشمال الغربي التجارية في أوروبا، حيث انطلق قطار التصنيع الحيوي بحلول سنة 1815، وحتى الشرق المتخلف الذي قد لا يرى المسافر إليه أي ملامح عمرانية أو حتى قرى لعدة أسابيع من الترحال، وحيث صبت التغييرات نحو الأسوأ، وهذا إن تغيرت الأحوال الاجتماعية والمادية أصلا. ومازالت هذه المنطقة على حالها بلا تغيير فالاستعباد والأمية والفقر ومتوسط الأعمار القليل شائع شيوعا عاما في سنة 1815 كما كان عليه الوضع في 1648. بل إن حتى في الغرب، عجز التوسع الاقتصادي عن استيعاب النمو المتسارع في تعداد السكان. وأدى الافتقار إلى المرونة في انتاج الغذاء إلى ارتفاع الأسعار، في حين أدى انعدام المرونة في الصناعة إلى انخفاض الأجور. فكانت النتيجة سقوط مجموعات كبيرة من تعداد السكان الذين يفتقرون إلى الاكتفاء الذاتي في هاوية الفاقّة. وقد نشأ نوع جديد من أنواع الفقر، لم يقع كنتيجة مفاجئة لمجاعة أو طاعون أو حرب، بل حالة دائمة من سوء التغذية والبطالة الجزئية. لقد كانت بمثابة دائرة شرسة لا خلاص منها، ذلك أن من عانى من نقص الغذاء لم يتوقفوا عن إنجاب الأبناء الذين حُكم عليهم بحمل بؤس هذه المعاناة حكما مؤبدا. ووقع هؤلاء أيضا تحت رحمة قوى السوق بعد أن سحقت الرأسمالية النظم الاجتماعية التقليدية وكل قيمها.
لعل من المغري تبني مذهبا غائيّا عقلانيا لرسم خط يوضح مسار تطور القيم الجديدة. ذاع صيت مسميات "عصر التفكير" و"عصر التنوير" في تلك الحقبة لتغدو تقريبا كالعبارات المبتذلة. لكن لابد أن يوجد خلف كل ابتذال جوهر من حقيقة. فهذه الحقبة شهدت فعلا درجات غير مسبوقة من العقلانية والعلمانية في التاريخ الأوروبي. فقد شهد هذا العصر نشر كتاب نيوتن " الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية"، ومقال جون لوك "مقالٌ خاص بالفهم البشري"، وكتاب ديفيد هيوم "بحث في الطبيعة البشرية"، وكتاب مونتسكيو "روح القوانين"، ونشر ديدرو ودالمبير أول موسوعة إنسانية، من ضمن عديد من المطبوعات الهامة الأخرى التي قضت على المنظور الديني للكون. إلا أن ثمة أسباب جد وجيهة لتوصيفه أيضا بـ"عصر الإيمان" وذلك لتميزه بعدد من حركات الصحوة الدينية كالينسينية والتقوية والميثودية (المنهاجية)، كما أن الأدب الديني انتشر انتشارا شعبيا بالغا. ولم تبدُ أية علامة من علامات التلاشي والذبول مع مضي القرن الثامن عشر كما أظهرت ذلك بجلاء الثورة الرومانسية.. ويصبح من السهل، كما سنناقش في الفصل العاشر، إدراك تصوّر التطورات الثقافية لا كخط مستقيم من مرحلة الإيمان إلى مرحلة التفكير، بل كمواجهة ديالكتيكية تناقضية بين ثقافة الشعور وثقافة الفكر. أما أعمق آيات الاستقراء لهذا الصراع الوجودي فقد تكفل بتجسيده الأديب الألماني غوته في ملحمته الشعرية الضخمة "فاوست" التي تجاوزت أبياتها 12 ألف بيت، واحتلت من تفكيره وجهده حيزا كبيرا استنزف معظم أيام عمره، ومنها هذه الأبيات التي تصلح لأن تكون عبارة منقوشة لهذا الكتاب:
يا ويلتاه، يسكن في أحشائي روحان
ويمزق صراعهما حياتي إلى قطعتين
تحب إحداهما الدنيا وتتعلق بها
وتربط نفسها بها كتشبث الشهوة الجامحة
أما الأخرى فتتوق إلى التسامي عن الرمال السابحة
نحو ممالك عليا من العقول السالفة
[/frame]
<hr align="left" size="1" width="33%">
أقدم هنا ترجمتي لمقدمة كتاب البروفيسور تيموثي بلانينج "السعي نحو المجد: أوروبا بين عامي 1648 و1815 The Pursuit of Glory: Europe 1648-1815. حيث راقت لي أفكار الكتاب ومقدمته لما تحتويه من تتبع تاريخي (موجز) لمخاضات التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي في أوروبا خلال فترة الدراسة وهو ما أدى إلى تحرر الأوروبيين من الفكر الكنسي الذي كبلهم عن التقدم الحضاري مئات السنين.
(يرجى ممن يريد قراءة النص الإنجليزي الأصلي للمقارنة والتحليل الولوج من هنا)
[frame="15 98"]
السعي نحو المجد
أوروبا بين عامي 1648 و1815
تيموثي بلانينج
ترجمة، فيصل كريم الظفيري
إن كل مرحلة تاريخية تتعلق بأوروبا لا بد أن تبدأ بتاريخ اعتباطي معيّن، إلا إذا جرت طبعا محاولة لتغطية كل الأحداث منذ نشوء الإنسان الأول الذي يطلق عليه مصطلح (هومو سايبيانز). لكن بعض التواريخ أكثر اعتباطية من غيرها، فإذا تناولنا تاريخا بعينه ضمن ذات الحقبة فإنه قد يعني شيئا لنشاط إنساني واحد لكنه لسوء الحظ لا يعني سوى الشحيح لنشاط آخر. فعلى سبيل المثال، سنة ألف وسبعمائة وتسعة وثمانون لها صدى مدويا في عالم السياسة، غير أن صداها يخبو فيما يخص مجالات الموسيقى والفنون البصرية. وتندرج سنة ألف وستمائة وثمانية وأربعون ضمن هذا الصنف، فهي تبدو نقطة بداية منطقية لأن صلح وستفاليا عُقد في تلك السنة، فأنهى حربا استغرقت ثلاثين عاما وخلّفت دمارا على أوروبا أكثر مما تسبب به أي صراع سابق. كما أنها حسمت على الأقل قضيتين رئيستين، الاعتراف باستقلال الجمهورية الهولندية[1] عن أسبانيا، والتوصل إلى تسوية حول تركيبة أوروبا الناطقة بالألمانية لمدة قرن ونصف القرن من الزمان. بيد أن ما مثّل أكثر أهمية من ذلك هو ما وراء تلكما التسويتين، ألا وهو أن التعدد المذهبي ولد لكي يبقى. أما أشد المتعصبين الكاثوليك والبروتستانت فسيستمرون في نسج أحلامهم التي تصور الظفر لمعتقداتهم الأصيلة، فحالة الجمود التي توصلت لها جميع الأطراف سنة 1648 لم تتعرض لتهديد فعلي قط.
ثمة أمور غير مبتوت فيها سنة 1648 كما هو الحال فيما لم يبت فيه سنة 1815. وفي الفصول التالية، ستُغزل الخيوط معا لتقدم دليل الخروج عبر متاهة تسعى لأن تكون مُحكمة دون أن تأخذ شكلا مرسوما. ولو لم يتوفر سرد من السرديات الكبرى يدعمه هيغل أو ماركس -أو حتى المؤرخون الأحرار- فبالقطع ثمة خطوط من التطور القابلة للتميز، وأكثر هذه الخطوط إثارة للذهول في عالم السياسة هو ذلك التوجه الذي تبنته الدولة نحو السطوة والهيمنة. وبحلول سنة 1815، تأسست مطالبات الدولة في معظم أرجاء أوروبا نحو احتكار التشريع والولاء في داخل حدودها الإقليمية من خلال القانون في حقيقة الأمر، إن لم يتحقق ذلك عبر أي شيء آخر. وعلى الرغم من وجود تعددية وافرة من النظم الدستورية التي تتراوح بين الديمقراطية والأوتوقراطية، إلا أن ما يقع خلفها جميعا هو السيادة المجردة المتمثلة بالدولة. أما الكيانات السياسية التي لم تستطع تحقيق ذلك "الاحتكار للقوة الشرعية" (ماكس فيبر) التي تكمن في عمق الدولة، كبولندة والإمبراطورية الرومانية المقدسة، أصبحت فريسة سهلة لخصومها الذين اتسمت قراءتهم للإشارات المعاصرة بدقة أكبر. وقد احتلت العلمانية حيزا وجزءا لا ينفصم من هذا التطور، وهو ما تضمن إقصاء أي شكل من أشكال التدخل البابوي وحكم بتبعية الكنيسة للدولة. غير أن الدماء التي سرت في عروق الدولة عابها الفتور والضعف، ولذلك كانت هناك حاجة ملحة إلى إجراء ما يشبه عملية نقل دموي من شيء يستجلب مزيدا من الحيوية والإلهام وذلك لتحفيز أعضاء الدولة. ولم يكن ثمة أفضل من القومية لأداء هذا الدور، فهي دين دنيوي يمتلك القدرة على إطلاق عنان الإخلاص والكراهية بدرجة من الشراسة تضاهي أية تجربة عايشها الناس أثناء الصراعات الدينية بأية حقبة سابقة.
يتعين على الدول الناجحة التكيّف مع التغيير الاجتماعي، ولا تزدهر تلك الدول إلا بعد النجاح في دمج نخب مجتمعاتها والتكامل معها. وقد يتحقق ذلك من خلال البلاط الملكي، كما في حالة مشروع فيرساي للملك لويس الرابع عشر، أو عبر مجلس نيابي كما في البرلمان الإنجليزي، أو عبر طبقة النبلاء كما في بروسيا وروسيا، أو من خلال مزيج ما بين الأنواع الثلاثة كما في ملكية هابسبورغ. وفي كل حالة من تلك الحالات، ثبت وجود توجه لا ينفصم نحو ذلك التلاحم الصلب الذي يبدو غير قابل للفكاك عن المؤسسات السياسية. وحتى الحل غير المألوف الذي تكيفت معه بريطانيا واجه تصلبا في الشرايين بحلول سنة 1815. فقد اضطرت كل الدول الأوروبية، مهما تباينت تعقيداتها الاجتماعية، إلى التقبل الإجباري لنشوء نوع جديد من أنواع الفضاءات الثقافية- ألا وهو الحيّز الجماهيري، الذي مثّل ذاته كمنتدى يستطيع من خلاله الأفراد الذين عانوا من العزلة سابقا أن يجتمعوا معا لتبادل المعلومات والأفكار وممارسة النقد، وهو حيّز يقع في طبيعته ما بين النطاق الخاص للعائلة والشؤون الرسمية للدولة. وسواء حدث التواصل البيني للأفراد عن بعد بواسطة الاشتراك بذات النشرات الدورية أو التلاقي وجها لوجه في المقاهي أو في إحدى الجمعيات غير الربحية كنوادي القراءة أو المحافل الماسونية، فإن الرأي الجماهيري اكتسب وزنا جمعيا أضخم بكثير من مجموع أعضائه الفرادى. ومن الحيز الجماهيري بزغ نجم مصدر السلطة الجديدة التي تحدت صناع القرار في النظام القديم: ألا وهي سلطة الرأي العام. وقد تنوّع توقيت هذا التحوّل حسب طبيعة كل بلد أوروبي. فأولى البلدان التي دخلت هذا الميدان بريطانيا والجمهورية الهولندية، ذلك أنهما تشاركا معدلات مرتفعة نسبيا في التعليم والتمدّن وامتلكا نظاما يتمتع برقابة ليبرالية نسبية. والشيء بالشيء يذكر، وعلى النقيض التام كما في الطرف الآخر من أوروبا، فمن شبه المستحيل العثور على أي مظهر يشبه الحيز الجماهيري أو الرأي العام في روسيا قبل القرن التاسع عشر. وكما سنرى، عندما يحدث إدارة فاعلة للرأي العام فإن باستطاعته أن يؤدي وظيفة مصدر لموارد وسلطة إضافيتان للدولة ومعززتان لها. أما لو تعرض الرأي العام للتجاهل أو سوء الفهم أو الانعزال، كما حدث في فرنسا، فإن النتيجة قد تصل إلى التغيير الثوري.
لقد استمدت القوى التي كوّنت الحيز الجماهيري معظم أجزائها الأساسية من التوسع الأوروبي داخليا وخارجيا. فبعد وقوع المشاكل الحادة في النصف الأول من القرن السابع عشر التي سببتها الحرب والكساد والطاعون والمجاعة، كان التعافي بطيئا ومتقطعا وترقيعيا، لكن المؤشرات التنموية أخذت تتصاعد نحو الأعلى شيئا فشيئا، ومن مظاهرها: تعداد السكان المتزايد، نسبة الإنتاج الزراعي المرتفعة، حركة التجارة والتصنيع المتنامية، زيادة التمدن والحياة الحضرية، واستئناف التوسع الاستعماري. ومع حلول الربع الثاني من القرن الثامن عشر ، بدأت العملية تأخذ منحنى التسارع والتعزيز، بالرغم من الانتكاسات التي عرقلتها. فالتحسينات التي طرأت على حلقات التواصل الطبيعية احتلت أهمية مميزة، وقد نوقشت هذه المسألة في الفصل الأول. أما الفوائد فقد توزعت توزيعا غير متساوٍ. فأول من يقف بطابور الانتفاع الدولة، وهي التي تجاوز نهمها، بفرض مزيد من الضرائب لتحمل تضخم قواتها المسلحة، ليصل إلى الرجل الثري في قصره وكذلك إلى عتبة دار الفقير. أما ثانيهم فهم طبقة ملاك الأراضي الذين سرّهم استغلال ظاهرة "السعر المنقوص"[3] التي احتلت مكانا بين كميات الأموال المتزايدة التي جنوها من الإنتاج الزراعي والتكلفة المنخفضة نسبيا للبضائع المصنّعة التي اشتروها. ومع ارتفاع أسعار الأراضي إلى ثلاثة أضعاف وثبات الوجاهة المصاحبة لملكية الأرض، أمكن لهذا القطاع الطموح أن يزدهر إلى حد بعيد. وثمة مجموعة رئيسة ألا وهم المزارعون المستأجرون للأرض الذين يُعزى إليهم معظم الابتكارات المرتبطة بالشؤون الزراعية في تلك الحقبة. ومن الذين انتعشوا كذلك المقرضين والممولين، لاسيما أولئك الذين اشتركوا بتمويل الدولة والتجار الذين كان لهم ضلع في التجارة الاستعمارية على وجه الخصوص. واستطاع المنتجون الجريئون القادرون على العمل خارج نشاطات نقابات العمال المقيّدة أن يتمتعوا بمنافع مضاعفة من النمو الذي طرأ على كل من الطاقة العمالية والثورة الاستهلاكية التي عملت على تراكم القوة مع مضي القرن الثامن عشر.
إجمالا للقول، خلق التوسع الاقتصادي في القرن الثامن عشر طبقة ضخمة ومتنامية من المنتفعين والمستفيدين. ولعل أفضل من احتل موقعا مثاليا للحصول على أقصى الفرص في القرن هو ذلك النبيل الذي امتلك أراض عقارية كبيرة غنية بالثروات المعدنية، واستفاد من الخدمات التي قدمتها له الاتصالات الجيدة وتموقع في المناطق الصناعية، وهو الذي -وهذا ربما هو العامل الأهم- تنعم بالمؤهلات الشخصية والفكرية الكافية لتجعله أحد أصحاب المشاريع ورجالات الأعمال. وهذا الرجل -لا بد أن يكون رجلا، ذلك أن النساء كن يخضعن لجميع صنوف التمييز- قد يعقد قرانه على إحدى السيدات التي تنتمي إلى عائلة لها نشاطات في التمويل الحكومي والصرافة الاستثمارية والتجارة ما وراء البحار. وسيحتاج إلى ضمير صلد يمكنه من نسيان الخدمات القسرية الشاقة التي يقوم بها سبعة ملايين عبد نُقلوا من أفريقيا إلى الكاريبي على مدار القرن. وسيتلقى النصائح بأن يصبح "إنجليزيا" ليبقى محصنا نسبيا ضد الزيارات المفاجئة من مشاكل مزمنة تأخذ شكل الحروب أو الثورات، وهو ما انكب عليه أقرانه الأوروبيون لاسيما بعد سنة 1789.
بيد أن المنافع لم تتوزع توزيعا متساويا. فمن الناحية الجغرافية، حدث انحدار حاد تبايَن من منطقة الشمال الغربي التجارية في أوروبا، حيث انطلق قطار التصنيع الحيوي بحلول سنة 1815، وحتى الشرق المتخلف الذي قد لا يرى المسافر إليه أي ملامح عمرانية أو حتى قرى لعدة أسابيع من الترحال، وحيث صبت التغييرات نحو الأسوأ، وهذا إن تغيرت الأحوال الاجتماعية والمادية أصلا. ومازالت هذه المنطقة على حالها بلا تغيير فالاستعباد والأمية والفقر ومتوسط الأعمار القليل شائع شيوعا عاما في سنة 1815 كما كان عليه الوضع في 1648. بل إن حتى في الغرب، عجز التوسع الاقتصادي عن استيعاب النمو المتسارع في تعداد السكان. وأدى الافتقار إلى المرونة في انتاج الغذاء إلى ارتفاع الأسعار، في حين أدى انعدام المرونة في الصناعة إلى انخفاض الأجور. فكانت النتيجة سقوط مجموعات كبيرة من تعداد السكان الذين يفتقرون إلى الاكتفاء الذاتي في هاوية الفاقّة. وقد نشأ نوع جديد من أنواع الفقر، لم يقع كنتيجة مفاجئة لمجاعة أو طاعون أو حرب، بل حالة دائمة من سوء التغذية والبطالة الجزئية. لقد كانت بمثابة دائرة شرسة لا خلاص منها، ذلك أن من عانى من نقص الغذاء لم يتوقفوا عن إنجاب الأبناء الذين حُكم عليهم بحمل بؤس هذه المعاناة حكما مؤبدا. ووقع هؤلاء أيضا تحت رحمة قوى السوق بعد أن سحقت الرأسمالية النظم الاجتماعية التقليدية وكل قيمها.
لعل من المغري تبني مذهبا غائيّا عقلانيا لرسم خط يوضح مسار تطور القيم الجديدة. ذاع صيت مسميات "عصر التفكير" و"عصر التنوير" في تلك الحقبة لتغدو تقريبا كالعبارات المبتذلة. لكن لابد أن يوجد خلف كل ابتذال جوهر من حقيقة. فهذه الحقبة شهدت فعلا درجات غير مسبوقة من العقلانية والعلمانية في التاريخ الأوروبي. فقد شهد هذا العصر نشر كتاب نيوتن " الأصول الرياضية للفلسفة الطبيعية"، ومقال جون لوك "مقالٌ خاص بالفهم البشري"، وكتاب ديفيد هيوم "بحث في الطبيعة البشرية"، وكتاب مونتسكيو "روح القوانين"، ونشر ديدرو ودالمبير أول موسوعة إنسانية، من ضمن عديد من المطبوعات الهامة الأخرى التي قضت على المنظور الديني للكون. إلا أن ثمة أسباب جد وجيهة لتوصيفه أيضا بـ"عصر الإيمان" وذلك لتميزه بعدد من حركات الصحوة الدينية كالينسينية والتقوية والميثودية (المنهاجية)، كما أن الأدب الديني انتشر انتشارا شعبيا بالغا. ولم تبدُ أية علامة من علامات التلاشي والذبول مع مضي القرن الثامن عشر كما أظهرت ذلك بجلاء الثورة الرومانسية.. ويصبح من السهل، كما سنناقش في الفصل العاشر، إدراك تصوّر التطورات الثقافية لا كخط مستقيم من مرحلة الإيمان إلى مرحلة التفكير، بل كمواجهة ديالكتيكية تناقضية بين ثقافة الشعور وثقافة الفكر. أما أعمق آيات الاستقراء لهذا الصراع الوجودي فقد تكفل بتجسيده الأديب الألماني غوته في ملحمته الشعرية الضخمة "فاوست" التي تجاوزت أبياتها 12 ألف بيت، واحتلت من تفكيره وجهده حيزا كبيرا استنزف معظم أيام عمره، ومنها هذه الأبيات التي تصلح لأن تكون عبارة منقوشة لهذا الكتاب:
يا ويلتاه، يسكن في أحشائي روحان
ويمزق صراعهما حياتي إلى قطعتين
تحب إحداهما الدنيا وتتعلق بها
وتربط نفسها بها كتشبث الشهوة الجامحة
أما الأخرى فتتوق إلى التسامي عن الرمال السابحة
نحو ممالك عليا من العقول السالفة
[/frame]
<hr align="left" size="1" width="33%">
[1]الجمهورية الهولندية -واسمها الرسمي جمهورية الأراضي المنخفضة المتحدة السبع- استمرت منذ سنة 1581 وحتى 1795، وهي الآن ضمن المملكة الهولندية (المترجم)
[2] وهي الثورة التي وقعت سنة 1688 وعُزل على أثرها الملك جيمس الثاني ونَصّب فيها البرلمانيون ابنته ماري وزوجها ويليام الثالث (الحاكم الأعلى لجمهورية هولندا) ملكين على البلاد. (المترجم)
[3] يطلق عليها اقتصاديا ظاهرة السعر الظالم أو السعر المغبون حيث تباع السلعة الزراعية بثمن يقل عن السعر الحقيقي في حين أنها تشترى بثمنها الحقيقي في أماكن أخرى (د. جمال الويشي). (المترجم)
[2] وهي الثورة التي وقعت سنة 1688 وعُزل على أثرها الملك جيمس الثاني ونَصّب فيها البرلمانيون ابنته ماري وزوجها ويليام الثالث (الحاكم الأعلى لجمهورية هولندا) ملكين على البلاد. (المترجم)
[3] يطلق عليها اقتصاديا ظاهرة السعر الظالم أو السعر المغبون حيث تباع السلعة الزراعية بثمن يقل عن السعر الحقيقي في حين أنها تشترى بثمنها الحقيقي في أماكن أخرى (د. جمال الويشي). (المترجم)
تعليق