«نانوبيديا»
واسب .. واندال .. ويرْد
بقلم :محمد الخولي
دائرة معارف مصغرة في 30 حلقة عن مصطلحات ومسميات عاشت في زماننا، من هنا نقدم سبيكة معرفية نحكي فيها عن أصول الكلمات والمصطلحات والمفاهيم التي يستخدمونها في حياتنا الراهنة.. من الانجليزية الى العربية. ومن خلال هذا الجهد الذي استغرق مراحل زمنية مطولة وعمد الى استشارة مراجع متخصصة شتى.. آثرنا أن نعرضه على شكل موسوعة عربية مصغرة نانو موسوعة رتبناها على حروف الأبجدية العربية من الألف الى الياء بحيث نخّص كل حرف منها بثلاثة مصطلحات يطالعها القارئ الكريم على امتداد أيام رمضان المعظم.
واسب
تأمل تركيب عبارة انجليزية تصف كلماتها الفرد في فئة من السكان على أنه «وضّاح البشرة» ( أنجلوسكسوني ) بروتستانتي، بمعنى أنه أولا شخص أبيض البشرة، وينحدر ثانيا من أصل أنجلوسكسوني أي من أقوام وشعوب غرب أوروبا ثم أنه ثالثا يدين بالمذهب البروتستانتي من الديانة المسيحية.
وإذا تناولت الحروف الأولى من كلمات هذه العبارة الانجليزية وهي الواو والألف والسين ثم الباء لحصلت على مصطلح واسب الذي لا يعني في ذاته شيئا من حيث كونه كلمة خرافية تجسد اختصارا من أربعة حروف لكنها على الطريقة الأميركاني المتبعة في اختصار كل ظاهرة واختزال كل مفهوم بما يواكب الإيقاع اللاهث للحياة الأميركية هذه الكلمة - واسب - تدل على المهاجرين الرواد الذين كانوا أول من وفدوا على أميركا أرض العالم الجديد هربا من اضطهاد الكاثوليك ورغبة في أن يمارسوا ديانتهم البروتستانتية المذهب في ظل حرية أفسح وأبعد عن طائلة الملاحقة وصنوف المعاناة.
ومن مصادفات التاريخ العجيبة، وهو تاريخ استعماري بالدرجة الأولى، أن القوى الأوروبية الكبرى التي تدافعت إلى استيطان أرض القارة الأميركية بعد أن وصل كولومبوس إلى سواحلها عام 1492 - هذه المصادفات حملت كلا من تلك القوى الأوروبية على النفاذ إلى أقاليم أميركا من مناطق ومنافذ وسواحل شتى:
فرنسا جاءت من شمالها في كندا ثم انحدرت قواتها إلى منطقة متشغين والبحيرات العظمى في وسطها ومنها إلى مناطق الجنوب حيث أسسوا ولايات مازالت تتسم بالطابع الفرنسي في المسميات والمعمار والمطبخ وأهمها لويزيانا.. أما اسبانيا فاختارت أن تنفذ إلى أميركا عن مناطق الجنوب في فلوريدا ومنها إلى تكساس (معقل آل بوش) ومن ثم انداحت قوات اسبانيا غربا ومعها تأثير ثقافتها (المعروفة باسم الهسبانية) حتى ولاية كاليفورنيا في أقصى غرب أميركا.
أما سكان الجزر البريطانية الناطقون بالانجليزية، وفي طليعتهم مهاجرون من أيرلندا، فقد كان جّل همهّم عبور الأطلسي فكان أن نزلوا على الساحل الشرقي لقارة أميركا الشمالية وأسسوا مستوطنات مازالت تحتفظ باسمها حتى اليوم باسم انجلترا الجديدة (نيو إنجلاند) وهم الذين أضفوا على أميركا لغتها وثقافتها وفي غمار هذا كله احتاج الأمر إلى تمييزهم عن الفرنسيين والأسبان..
مما دعاهم إلى صياغة كلمة الواسب التي ألمحنا إليها، فضلا عن تمييزهم بالطبع عن مواطنيهم ذوي البشرة الداكنة والأصل الأفريقي وهم سلالة البشر الذين عانت أجيالهم السابقة محنة الاسترقاق والاستغلال فيما درج البيض على وصفهم بكلمة نجرو - زنجي. وبعد حركة الحقوق المدنية التي قادها مارتن لوثر كنج ورفاقه في الستينات وخوفا من عقابيل ثورة يشعل السود نارها عمدت ماكينة الشعارات الأميركاني إلى تسمية أرق وقعا وألطف جرسا هي الأفرو ـ أميركيين..
ورغم أن الواسب، بالصفات التي عرضناها، ظلوا يعدون أنفسهم أقرب إلى ارستقراطية أميركية مخصوصة من ناحية التراث الثقافي والأعراف المنقولة عن انجلترا وأيرلندا.. إلا أن هناك من ظل يغمز من قناتهم ويلمز من كيانهم بالنقد وأحيانا بالتعريض والتجريح. هكذا اخترعوا لوصفهم كلمة «يوبي» التي راجت منذ الثمانينات لتصدق أحيانا على الفرد الأميركي الناجح المتعلم وأحيانا على نفس هذا الفرد الطمّاع والراغب في الربح السريع بأي طريق وبعدها اصطنعوا كلمة «دِنك» وهي بدورها اختصار خبيث أحيانا، لعبارة العائلة ذات الدخلين من الزوج والزوجة وبدون أطفال وأحيانا يستخدمونها للنيل من الشخص ولوصف غرابة أطواره ومن ثم لا يستخدمونها إلا عند الضرورة القصوى. في حالة الشديد القوي كما قد يقال.
واندال
قبائل عاشت حياة بدائية في مناطق وسط أوروبا منذ القرن الخامس قبل الميلاد.. ثم انحدرت جموعهم تجتاح الأخضر واليابس إلى مناطق شاسعة في آسيا مع القرون الأولى للميلاد.. وفي بداية القرن الخامس الميلادي.. دفعت بهم موجة للهجرة حيث عبروا السهول إلى غرب أوروبا وغزوا بلاد غالة (فرنسا اليوم) وكانت تحكمها جموع الفرنجة التي لم تطق وجودهم فعملت على طردهم إلى حيث توجهوا إلى غزو اسبانيا عبر الحدود فكان أن تقبلهم الإمبراطور هونوريوس بعد أن وضعهم تحت حمايته.
وأثمر الاستقرار حالة من الازدهار الذي أفضى بدوره إلى إذكاء أطماع إقليمية دفعت بالواندال إلى عبور مضيق جبل طارق حيث غزوا شمال أفريقيا (المغاربي حاليا) ومنها إلى صقلية وجنوب ايطاليا فأصبحوا سادة البحر المتوسط ثم عادت جحافلهم إلى اسبانيا التي شهدت دولتهم المنيعة عسكريا ولكن الفقيرة حضاريا فما كان لمثل هذه القبائل شبه المتوحشة أن تبدع فنا أو تؤسس فكرا. ولم يكد القرن السادس الميلادي ينتصف إلا وقد تداعت ثم زالت دولة الوندال من اسبانيا ولم تترك أثرا اللهم إلا أمرين يتصلان بالمسميات والمصطلحات.
أولهما اسم واندالوسيا - التي اشتق منها المسلمون العرب اسم الدولة الزاهرة التي فتحوها منذ أيام طارق بن زياد وكان الاسم هو الأندلس. ؟ الثاني كلمة مازالت باقية في معاجم اللغات الانجليزية والاسبانية والفرنسية التي لا نفتأ نرجع عليها في مثل هذه السطور. والكلمة هي «؟اندال» في الانجليزية و«فانديل» في الفرنسية و«فاندالو» في الاسبانية وكلها كما ترى تحيل إلى اسم قبائل الواندال وكلها للأسف تنصرف إلى معنى واحد يرتبط بالسلوك المنافي للحضارة، فالمعنى هو التخريب والتدمير وأن يعيث المرء فسادا في الأرض..
ولقد بلغ من أمر هذه المعاني الخطيرة الحد الذي جعل بعض القواميس العربية (المورد - منير البعلبكي مثلا) ينحت كلمات من نفس الاشتقاق الجرماني القديم أو الروماني - اللاتيني الحديث فيقال «يوندل» بمعنى يدمر دع عنك اسم الوندلة بمعنى التخريب الواسع والتدمير الرهيب.. والعياذ بالله.
وِيرْد
في المشهد الرابع بالفصل الأول من مسرحية ماكبث يدير الشاعر الانجليزي شكسبير الحوار: يسأل بطل التراجيديا ماكبث صاحبه لينوكس عما إذا كان قد رأى العجيبات الثلاث يقصد الساحرات الثلاث اللائي يظهرن في فصول العمل الدرامي وسط ظلال من القتامة المنذرة بسوء المصير، ويصفهن ماكبث قائلا بأن الهواء الذي يحيط بوجودهن فاسد يخنق الأنفاس وأن الإنسان الذي يثق فيهن يورد نفسه موارد الهلاك.
إن شكسبير يستخدم لفظة العجيبة لوصف الساحرة (وغالبا ما تكون هي العجوز الشريرة في ثقافة أهل الغرب وأوهامهم) ويرادفها في الانجليزية كلمة «ويرد» وهي لا تقتصر على معنى الغرابة التي تستخدمها الانجليزية - الاميركية المعاصرة لوصف أي شخص لا يعجبك من ذكر أو أنثى.. ومن ذلك مثلا الطالب الجاد المنكب على دفاتره ومراجعه يصفه رفاق المدرسة أو الجامعة بأنه «ويرد»..
الفتاة التي تراعي الحشمة في الملابس وقد تبالغ قليلا في المراعاة توصف بأنها «ويرد» وهكذا.. وربما كان أحدث استخدام لهذا الوصف هو الفرد الملازم لجهاز الحاسوب.. عيناه لا تفارقان الشاشة ولا تكاد أنامله تفارق لوحة المفاتيح (الكي بورد).. فإما أنه «ويرد» وإما أنه «نيرد» وهي مرادفة لها في عامية الأميركان.
في كل حال فأمر الغرابة يهون.. حيث كانت «ويرد» عند شعوب غابرة قديمة تشير إلى ما هو أخطر وأفدح من ذلك.. وحين تكلم شكسبير عن الساحرات العجيبات الثلاث لم تكن المسألة مقصورة على حكاية الغرابة أو شذوذ الشخصية.. استخدام «ويرد» يشير إلى ربات القضاء والقَدَر الثلاث عند الاغريق والرومان وكانت شعوبهم تتصور أن هؤلاء المعبودات.. ال.. ويرد يملكن بيدهن دفاتر القتر المكتوب ومفاتيح المصير المسطور وكان القدماء يطلقون عليهن اسم «نورنس»
وقد ترجمتها الانجليزية القروسطية بكلمة ويرد لتعني «القدر» وهي كلمة تعود في اللغات الهندو ـ أوروبية إلى الجذر «ويرت» ومعناه التحول والتغيير من حال إلى حال.. وكانوا بهذا يصورون قدر الإنسان على أنه خيط طويل تتولى غزله ربات القدر ثم ينقطع فجأة عند وفاة الإنسان.
وبعد عصور النهضة والتنوير جاء القرن التاسع عشر ليشهد الناس وقد تخلوا عن فكر الخرافة وتفسير الأساطير.. فكان أن تحولوا بالكلمة عن حكاية الساحرات وربات القضاء والقدر وخيوط الغزل والنسيج المحيطة بحياة الإنسان.. ولكن بقيت ظلال المعنى القديم المستخدم في مسرحية ماكبث فكان أن أبطلوا تفسير «ويرد» على أنها ربات القسمة والنصيب..
وإن أضافوا إلى معانيها ظلالا أخرى معاصرة تشير إلى سوء العواقب أو الأقدار المعاكسة أو الحظ الذي لايواتي وكلها معان تنطوي على أن في الأمر شيئا غامضا.. مسحورا كما قد نقول. ولكنهم في كل حال ظلوا يحافظون على المعنى الظاهري الذي أفادت به كلمات ماكبث - معنى الغرابة والتفرد والخروج عن المعتاد أو المألوف - وربما حافظوا على ذلك من باب الاحترام ليس إلا لذكرى شاعرهم الأكبر ويليام شكسبير.
واسب .. واندال .. ويرْد
بقلم :محمد الخولي
دائرة معارف مصغرة في 30 حلقة عن مصطلحات ومسميات عاشت في زماننا، من هنا نقدم سبيكة معرفية نحكي فيها عن أصول الكلمات والمصطلحات والمفاهيم التي يستخدمونها في حياتنا الراهنة.. من الانجليزية الى العربية. ومن خلال هذا الجهد الذي استغرق مراحل زمنية مطولة وعمد الى استشارة مراجع متخصصة شتى.. آثرنا أن نعرضه على شكل موسوعة عربية مصغرة نانو موسوعة رتبناها على حروف الأبجدية العربية من الألف الى الياء بحيث نخّص كل حرف منها بثلاثة مصطلحات يطالعها القارئ الكريم على امتداد أيام رمضان المعظم.
واسب
تأمل تركيب عبارة انجليزية تصف كلماتها الفرد في فئة من السكان على أنه «وضّاح البشرة» ( أنجلوسكسوني ) بروتستانتي، بمعنى أنه أولا شخص أبيض البشرة، وينحدر ثانيا من أصل أنجلوسكسوني أي من أقوام وشعوب غرب أوروبا ثم أنه ثالثا يدين بالمذهب البروتستانتي من الديانة المسيحية.
وإذا تناولت الحروف الأولى من كلمات هذه العبارة الانجليزية وهي الواو والألف والسين ثم الباء لحصلت على مصطلح واسب الذي لا يعني في ذاته شيئا من حيث كونه كلمة خرافية تجسد اختصارا من أربعة حروف لكنها على الطريقة الأميركاني المتبعة في اختصار كل ظاهرة واختزال كل مفهوم بما يواكب الإيقاع اللاهث للحياة الأميركية هذه الكلمة - واسب - تدل على المهاجرين الرواد الذين كانوا أول من وفدوا على أميركا أرض العالم الجديد هربا من اضطهاد الكاثوليك ورغبة في أن يمارسوا ديانتهم البروتستانتية المذهب في ظل حرية أفسح وأبعد عن طائلة الملاحقة وصنوف المعاناة.
ومن مصادفات التاريخ العجيبة، وهو تاريخ استعماري بالدرجة الأولى، أن القوى الأوروبية الكبرى التي تدافعت إلى استيطان أرض القارة الأميركية بعد أن وصل كولومبوس إلى سواحلها عام 1492 - هذه المصادفات حملت كلا من تلك القوى الأوروبية على النفاذ إلى أقاليم أميركا من مناطق ومنافذ وسواحل شتى:
فرنسا جاءت من شمالها في كندا ثم انحدرت قواتها إلى منطقة متشغين والبحيرات العظمى في وسطها ومنها إلى مناطق الجنوب حيث أسسوا ولايات مازالت تتسم بالطابع الفرنسي في المسميات والمعمار والمطبخ وأهمها لويزيانا.. أما اسبانيا فاختارت أن تنفذ إلى أميركا عن مناطق الجنوب في فلوريدا ومنها إلى تكساس (معقل آل بوش) ومن ثم انداحت قوات اسبانيا غربا ومعها تأثير ثقافتها (المعروفة باسم الهسبانية) حتى ولاية كاليفورنيا في أقصى غرب أميركا.
أما سكان الجزر البريطانية الناطقون بالانجليزية، وفي طليعتهم مهاجرون من أيرلندا، فقد كان جّل همهّم عبور الأطلسي فكان أن نزلوا على الساحل الشرقي لقارة أميركا الشمالية وأسسوا مستوطنات مازالت تحتفظ باسمها حتى اليوم باسم انجلترا الجديدة (نيو إنجلاند) وهم الذين أضفوا على أميركا لغتها وثقافتها وفي غمار هذا كله احتاج الأمر إلى تمييزهم عن الفرنسيين والأسبان..
مما دعاهم إلى صياغة كلمة الواسب التي ألمحنا إليها، فضلا عن تمييزهم بالطبع عن مواطنيهم ذوي البشرة الداكنة والأصل الأفريقي وهم سلالة البشر الذين عانت أجيالهم السابقة محنة الاسترقاق والاستغلال فيما درج البيض على وصفهم بكلمة نجرو - زنجي. وبعد حركة الحقوق المدنية التي قادها مارتن لوثر كنج ورفاقه في الستينات وخوفا من عقابيل ثورة يشعل السود نارها عمدت ماكينة الشعارات الأميركاني إلى تسمية أرق وقعا وألطف جرسا هي الأفرو ـ أميركيين..
ورغم أن الواسب، بالصفات التي عرضناها، ظلوا يعدون أنفسهم أقرب إلى ارستقراطية أميركية مخصوصة من ناحية التراث الثقافي والأعراف المنقولة عن انجلترا وأيرلندا.. إلا أن هناك من ظل يغمز من قناتهم ويلمز من كيانهم بالنقد وأحيانا بالتعريض والتجريح. هكذا اخترعوا لوصفهم كلمة «يوبي» التي راجت منذ الثمانينات لتصدق أحيانا على الفرد الأميركي الناجح المتعلم وأحيانا على نفس هذا الفرد الطمّاع والراغب في الربح السريع بأي طريق وبعدها اصطنعوا كلمة «دِنك» وهي بدورها اختصار خبيث أحيانا، لعبارة العائلة ذات الدخلين من الزوج والزوجة وبدون أطفال وأحيانا يستخدمونها للنيل من الشخص ولوصف غرابة أطواره ومن ثم لا يستخدمونها إلا عند الضرورة القصوى. في حالة الشديد القوي كما قد يقال.
واندال
قبائل عاشت حياة بدائية في مناطق وسط أوروبا منذ القرن الخامس قبل الميلاد.. ثم انحدرت جموعهم تجتاح الأخضر واليابس إلى مناطق شاسعة في آسيا مع القرون الأولى للميلاد.. وفي بداية القرن الخامس الميلادي.. دفعت بهم موجة للهجرة حيث عبروا السهول إلى غرب أوروبا وغزوا بلاد غالة (فرنسا اليوم) وكانت تحكمها جموع الفرنجة التي لم تطق وجودهم فعملت على طردهم إلى حيث توجهوا إلى غزو اسبانيا عبر الحدود فكان أن تقبلهم الإمبراطور هونوريوس بعد أن وضعهم تحت حمايته.
وأثمر الاستقرار حالة من الازدهار الذي أفضى بدوره إلى إذكاء أطماع إقليمية دفعت بالواندال إلى عبور مضيق جبل طارق حيث غزوا شمال أفريقيا (المغاربي حاليا) ومنها إلى صقلية وجنوب ايطاليا فأصبحوا سادة البحر المتوسط ثم عادت جحافلهم إلى اسبانيا التي شهدت دولتهم المنيعة عسكريا ولكن الفقيرة حضاريا فما كان لمثل هذه القبائل شبه المتوحشة أن تبدع فنا أو تؤسس فكرا. ولم يكد القرن السادس الميلادي ينتصف إلا وقد تداعت ثم زالت دولة الوندال من اسبانيا ولم تترك أثرا اللهم إلا أمرين يتصلان بالمسميات والمصطلحات.
أولهما اسم واندالوسيا - التي اشتق منها المسلمون العرب اسم الدولة الزاهرة التي فتحوها منذ أيام طارق بن زياد وكان الاسم هو الأندلس. ؟ الثاني كلمة مازالت باقية في معاجم اللغات الانجليزية والاسبانية والفرنسية التي لا نفتأ نرجع عليها في مثل هذه السطور. والكلمة هي «؟اندال» في الانجليزية و«فانديل» في الفرنسية و«فاندالو» في الاسبانية وكلها كما ترى تحيل إلى اسم قبائل الواندال وكلها للأسف تنصرف إلى معنى واحد يرتبط بالسلوك المنافي للحضارة، فالمعنى هو التخريب والتدمير وأن يعيث المرء فسادا في الأرض..
ولقد بلغ من أمر هذه المعاني الخطيرة الحد الذي جعل بعض القواميس العربية (المورد - منير البعلبكي مثلا) ينحت كلمات من نفس الاشتقاق الجرماني القديم أو الروماني - اللاتيني الحديث فيقال «يوندل» بمعنى يدمر دع عنك اسم الوندلة بمعنى التخريب الواسع والتدمير الرهيب.. والعياذ بالله.
وِيرْد
في المشهد الرابع بالفصل الأول من مسرحية ماكبث يدير الشاعر الانجليزي شكسبير الحوار: يسأل بطل التراجيديا ماكبث صاحبه لينوكس عما إذا كان قد رأى العجيبات الثلاث يقصد الساحرات الثلاث اللائي يظهرن في فصول العمل الدرامي وسط ظلال من القتامة المنذرة بسوء المصير، ويصفهن ماكبث قائلا بأن الهواء الذي يحيط بوجودهن فاسد يخنق الأنفاس وأن الإنسان الذي يثق فيهن يورد نفسه موارد الهلاك.
إن شكسبير يستخدم لفظة العجيبة لوصف الساحرة (وغالبا ما تكون هي العجوز الشريرة في ثقافة أهل الغرب وأوهامهم) ويرادفها في الانجليزية كلمة «ويرد» وهي لا تقتصر على معنى الغرابة التي تستخدمها الانجليزية - الاميركية المعاصرة لوصف أي شخص لا يعجبك من ذكر أو أنثى.. ومن ذلك مثلا الطالب الجاد المنكب على دفاتره ومراجعه يصفه رفاق المدرسة أو الجامعة بأنه «ويرد»..
الفتاة التي تراعي الحشمة في الملابس وقد تبالغ قليلا في المراعاة توصف بأنها «ويرد» وهكذا.. وربما كان أحدث استخدام لهذا الوصف هو الفرد الملازم لجهاز الحاسوب.. عيناه لا تفارقان الشاشة ولا تكاد أنامله تفارق لوحة المفاتيح (الكي بورد).. فإما أنه «ويرد» وإما أنه «نيرد» وهي مرادفة لها في عامية الأميركان.
في كل حال فأمر الغرابة يهون.. حيث كانت «ويرد» عند شعوب غابرة قديمة تشير إلى ما هو أخطر وأفدح من ذلك.. وحين تكلم شكسبير عن الساحرات العجيبات الثلاث لم تكن المسألة مقصورة على حكاية الغرابة أو شذوذ الشخصية.. استخدام «ويرد» يشير إلى ربات القضاء والقَدَر الثلاث عند الاغريق والرومان وكانت شعوبهم تتصور أن هؤلاء المعبودات.. ال.. ويرد يملكن بيدهن دفاتر القتر المكتوب ومفاتيح المصير المسطور وكان القدماء يطلقون عليهن اسم «نورنس»
وقد ترجمتها الانجليزية القروسطية بكلمة ويرد لتعني «القدر» وهي كلمة تعود في اللغات الهندو ـ أوروبية إلى الجذر «ويرت» ومعناه التحول والتغيير من حال إلى حال.. وكانوا بهذا يصورون قدر الإنسان على أنه خيط طويل تتولى غزله ربات القدر ثم ينقطع فجأة عند وفاة الإنسان.
وبعد عصور النهضة والتنوير جاء القرن التاسع عشر ليشهد الناس وقد تخلوا عن فكر الخرافة وتفسير الأساطير.. فكان أن تحولوا بالكلمة عن حكاية الساحرات وربات القضاء والقدر وخيوط الغزل والنسيج المحيطة بحياة الإنسان.. ولكن بقيت ظلال المعنى القديم المستخدم في مسرحية ماكبث فكان أن أبطلوا تفسير «ويرد» على أنها ربات القسمة والنصيب..
وإن أضافوا إلى معانيها ظلالا أخرى معاصرة تشير إلى سوء العواقب أو الأقدار المعاكسة أو الحظ الذي لايواتي وكلها معان تنطوي على أن في الأمر شيئا غامضا.. مسحورا كما قد نقول. ولكنهم في كل حال ظلوا يحافظون على المعنى الظاهري الذي أفادت به كلمات ماكبث - معنى الغرابة والتفرد والخروج عن المعتاد أو المألوف - وربما حافظوا على ذلك من باب الاحترام ليس إلا لذكرى شاعرهم الأكبر ويليام شكسبير.
تعليق