في ذاك الوقت اشتعل تنافس محتدم على الهيمنة العالمية بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، ومع محاولة كل منهما ضم العالم العربي إلى منطقة نفوذه، أصبح الشرق الأوسط إحدى الحلبات العديدة التي تتصارع عليها القوى العظمى. ومع دخول العالم العربي عصر الاستقلال القومي، وجد أن القواعد الأجنبية — قواعد الحرب الباردة — تقيد المساحة المتاحة له للإمساك بزمام أموره لما يقرب من نصف قرن (من 1945 إلى 1990).
كانت قواعد الحرب الباردة واضحة: إما أن يكون البلد حليفًا للولايات المتحدة أو الاتحاد السوفييتي، لكن الإبقاء على علاقات طيبة مع الدولتين خيار غير مطروح. بصفة عامة، لم يمل العرب إلى الموقف الأمريكي المعادي للشيوعية ولا إلى المادية الجدلية التي تبناها الاتحاد السوفييتي. وحاولت الحكومات العربية أن تسلك طريقً طريقا وسطا عن طريق حركة عدم الانحياز، لكن دون جدوى. وفي النهاية أُجبرت كل دولة من دول العالم العربي على الانضمام لأحد المعسكرين.
أطلقت الدول التي دخلت في حيز نفوذ السوفييت على نفسها دولا «تقدمية»، لكن الغرب وصفها بالدول العربية «المتطرفة». شملت هذه المجموعة كل الدول العربية التي اندلعت فيها ثورات، وهي: الجزائر وليبيا ومصر وسوريا والعراق واليمن الجنوبي. وانحازت للغرب الجمهوريات الليبرالية كتونس ولبنان والملكيات المحافظة كالمغرب والأردن والمملكة العربية السعودية ودول الخليج، فوصفتها الدول العربية التقدمية بالدول «الرجعية»، وعدها الغرب دولا «معتدلة». وشرع الغربيون من الصحفييين وصانعي السياسات على حد سواء في استخدام هذه المسميات. تبع هذا ظهور علاقات تبعية ضمنت الدول العربية بمقتضاها أن تحصل من الدول العظمى التي تتبعها على السلاح لجيوشها ومعونات تنمية لإصلاح اقتصاداتها.
أظهرت الدول العربية أنها مشارك فعال في الحرب الباردة، إذ استخدمت عددا من الأسلحة في محاولة لتحقيق التوازن في اللعب مع القوى العظمى. في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، آمن العرب إيمانًاً راسخا بسياسات القومية العربية؛ غيرأن توالي الهزائم أمام إسرائيل وموت الرئيس المصري جمال عبد الناصر أضعفا مصداقيتها. وفي سبعينيات القرن العشرين استخدمت بعض الدول العربية مواردها النفطية لزيادة نفوذها على الساحة الدولية. وفي ثمانينيات القرن العشرين لجأ الكثيرون في العالم العربي للإسلام السياسي التماسا للقوة والوحدة في مواجهة القوى الخارجية. غير أن أيٍّا من هذه الاستراتيجيات لم يحرر العالم العربي من قواعد الحرب الباردة.
ظلت الضوابط والتوازنات قائمة مع وجود القوتين العظميين؛ فلا السوفييت ولا الأمريكيون يستطيعون القيام بتصرف يمس المنطقة دون رجوع أحدهما إلى الآخر خوفًا من استثارة رد فعل عدائي. وعاش المحللون في واشنطن وموسكو في ظل الخوف من نشوب حرب عالمية ثالثة، وبذلوا جهدا جهيدا حتى يمنعوا الشرق الأوسط من إشعال هذا الحريق. أيضا تعلم القادة العرب كيف يتلاعبون بالقوى العظمى لصالحهم، إذ وظفوا التهديد بسحب موالاتهم للطرف الذي يدينون له بالتبعية حتى يضمنوا لأنفسهم الحصول على مزيد من الأسلحة ومعونات التنمية. على الرغم من هذا، مع نهاية الحرب الباردة كان العرب واعين تماما أنهم لم يقتربوا من تحقيق درجة الاستقلال والتنمية والاحترام التي طمحوا إليها في بداية هذا العهد. ومع انهيار الاتحاد السوفييتي، أصبح العالم العربي على مشارف عصر جديد تسود فيه ظروف أسوأ.
( يتبع)
كانت قواعد الحرب الباردة واضحة: إما أن يكون البلد حليفًا للولايات المتحدة أو الاتحاد السوفييتي، لكن الإبقاء على علاقات طيبة مع الدولتين خيار غير مطروح. بصفة عامة، لم يمل العرب إلى الموقف الأمريكي المعادي للشيوعية ولا إلى المادية الجدلية التي تبناها الاتحاد السوفييتي. وحاولت الحكومات العربية أن تسلك طريقً طريقا وسطا عن طريق حركة عدم الانحياز، لكن دون جدوى. وفي النهاية أُجبرت كل دولة من دول العالم العربي على الانضمام لأحد المعسكرين.
أطلقت الدول التي دخلت في حيز نفوذ السوفييت على نفسها دولا «تقدمية»، لكن الغرب وصفها بالدول العربية «المتطرفة». شملت هذه المجموعة كل الدول العربية التي اندلعت فيها ثورات، وهي: الجزائر وليبيا ومصر وسوريا والعراق واليمن الجنوبي. وانحازت للغرب الجمهوريات الليبرالية كتونس ولبنان والملكيات المحافظة كالمغرب والأردن والمملكة العربية السعودية ودول الخليج، فوصفتها الدول العربية التقدمية بالدول «الرجعية»، وعدها الغرب دولا «معتدلة». وشرع الغربيون من الصحفييين وصانعي السياسات على حد سواء في استخدام هذه المسميات. تبع هذا ظهور علاقات تبعية ضمنت الدول العربية بمقتضاها أن تحصل من الدول العظمى التي تتبعها على السلاح لجيوشها ومعونات تنمية لإصلاح اقتصاداتها.
أظهرت الدول العربية أنها مشارك فعال في الحرب الباردة، إذ استخدمت عددا من الأسلحة في محاولة لتحقيق التوازن في اللعب مع القوى العظمى. في خمسينيات وستينيات القرن العشرين، آمن العرب إيمانًاً راسخا بسياسات القومية العربية؛ غيرأن توالي الهزائم أمام إسرائيل وموت الرئيس المصري جمال عبد الناصر أضعفا مصداقيتها. وفي سبعينيات القرن العشرين استخدمت بعض الدول العربية مواردها النفطية لزيادة نفوذها على الساحة الدولية. وفي ثمانينيات القرن العشرين لجأ الكثيرون في العالم العربي للإسلام السياسي التماسا للقوة والوحدة في مواجهة القوى الخارجية. غير أن أيٍّا من هذه الاستراتيجيات لم يحرر العالم العربي من قواعد الحرب الباردة.
ظلت الضوابط والتوازنات قائمة مع وجود القوتين العظميين؛ فلا السوفييت ولا الأمريكيون يستطيعون القيام بتصرف يمس المنطقة دون رجوع أحدهما إلى الآخر خوفًا من استثارة رد فعل عدائي. وعاش المحللون في واشنطن وموسكو في ظل الخوف من نشوب حرب عالمية ثالثة، وبذلوا جهدا جهيدا حتى يمنعوا الشرق الأوسط من إشعال هذا الحريق. أيضا تعلم القادة العرب كيف يتلاعبون بالقوى العظمى لصالحهم، إذ وظفوا التهديد بسحب موالاتهم للطرف الذي يدينون له بالتبعية حتى يضمنوا لأنفسهم الحصول على مزيد من الأسلحة ومعونات التنمية. على الرغم من هذا، مع نهاية الحرب الباردة كان العرب واعين تماما أنهم لم يقتربوا من تحقيق درجة الاستقلال والتنمية والاحترام التي طمحوا إليها في بداية هذا العهد. ومع انهيار الاتحاد السوفييتي، أصبح العالم العربي على مشارف عصر جديد تسود فيه ظروف أسوأ.
( يتبع)
تعليق